كانت الأمسية التى نظمتها جماعة أمون للسينما والأدب السبت الماضى فى جاليرى ضى بالدقى واحدة من الأمسيات التى لا يمكن نسيانها أبدا، لأن هدفها الرئيسى كان مواجهة النسيان الذى لحق برمزين كبيرين، الأول هو المخرج محمد بيومى رائد السينما المصرية والثانى هو الدكتور محمد كامل القليوبى مخرجنا الكبير الذى وضع على عاتقه مهمة إنصاف الأول وأعد عنه فيلما وثائقيا نادرا يضع أمام المشاهد جملة من الحقائق القديمة الصالحة لإثارة الدهشة كما يقول كاتب القصة الراحل يحيى الطاهر عبدالله فى عنوان واحدة من قصصه الفريدة.
ومثل يحيى الطاهر عبدالله انتمى القليوبى لجيل الستينيات فى مصر ومثله أيضا تتلمذ على يد الراحل عبدالفتاح الجمل وظل فى رباط معه إلى أن توفاه الله، كما كان رفيقا لكاتب آخر تعرض لظلم كبير هو محمد البساطى الذى أوشكنا على نسيانه أيضا.
ونظرا لأن جماعة أمون تعنى بالسينما والأدب، فقد كان اختيارها لفيلم القليوبى عن محمد بيومى موفقا للغاية، وزاد من قيمة الاختيار أن الجماعة اختارت اثنين من المتحدثين ربما هما الأقرب لعالم المخرج الراحل وأفكاره وكان الأول هو الصديق د. عماد أبو غازى وزير الثقافة السابق والباحث المعروف فى التاريخ والوثائق والثانية هى الدكتورة ثناء هاشم الأستاذ بمعهد السينما والتلميذة الأقرب لعالم أستاذها الذى تعرفت عليه خلال سنواته الأخيرة ولمست عن قرب ثقافته الرفيعة ووعيه الحاد بمسئوليات الفنان المثقف فى بلد مثل مصر.
درس القليوبى السينما وأخرج فيلمه الأول «حكاية ما جرى فى مدينة نعم» الذى يعبر تماما عن تطلعات جيله فى الأجواء المصاحبة لمظاهرات 1968 وما جاء بعدها ثم سافر إلى الاتحاد السوفيتى وأكمل دراسته هناك وبعد عودته أصبح أستاذا فى المعهد العالى للسينما وتخرجت على يديه دفعات كثيرة وخلال مسيرته أخرج مجموعة من الأفلام التى تفاوتت حظوظها من النجاح لأنها ولدت فى أصعب سنوات السينما المصرية، وربما كان أهمها فيلم (البحر بيضحك ليه) وبخلاف هذا الفيلم قدم أفلاما أخرى منها (ثلاثة على الطريق)، (أحلام مسروقة (1999)، (اتفرج يا سلام) وكان فيلمه الأخير (خريف آدم (2002)، الذى كتبه علاء عزام عن قصة «ابن موت» لمحمد البساطى. وفى ظنى أن الإسهام الحقيقى للقليوبى ارتبط بالمعركة التى خاضها للحفاظ على أرشيف السينما المصرية ودعوته التى لم تتوقف لتأسيس السينماتيك أو الأرشيف السينمائى المصرى وهى دعوة لم تجد من ينصت إليها أبدا رغم المسئوليات المهمة التى تولاها الراحل وعلى رأسها المركز القومى للسينما.
أما فيلمه عن محمد بيومى الذى تم عرضه فى الأمسية فهو من وجهة نظرى منجزه الفنى الأهم لأنه يقدم درسا بليغا فى صناعة الفيلم الوثائقى ويكشف عن روح باحث حقيقى، يمتلك الوعى بقيمة الأرشيف وكيفية استعماله، فهو فيلم لا يعتمد على المقابلات وإنما على رحلة بحث جدية، وطريقة فريدة فى السرد الفيلمى والانتقال الناعم بين أزمنة متعددة تخدم مشروع المخرج فى سعيه نحو إعادة كتابة تاريخ السينما المصرية من خلال رؤية تصحح ما تم الاستسلام له والاستقرار عليه ولذلك فجر فيلمه تساؤلات مهمة كشفت الدور الرائد الذى لعبه بيومى فى تأسيس السينما المصرية عبر شركته التى كانت تحمل باسم (أمون) والمفارقة اللافتة للنظر أن جماعة أمون التى دعت للأمسية اقتبست الاسم من شركة بيومى التى كشف الفيلم بجلاء دورها الرائد وما تعرضت إليه من تجاهل وإقصاء، وكما أكد د. أبو غازى خلال الندوة فإن بيومى رائد بكل المعايير فى الالتفات المبكر لقيمة السينما كصناعة إبداعية، وثانيا لأنه استعملها لخدمة ثورة 1919 مدركا تأثيرها البالغ فى توجيه الجماهير.
وربما لا يعرف الكثير من القراء أنه بفضل تلك الأفلام التى أخرجها بيومى حول استقبال سعد زغلول بعد عودته من المنفى أصبح لدينا لقطات حية عن مناخ الثورة، وما جرى فيها ومن جهة كان مشروع بيومى كله نتاجا إبداعيا لهذا الحراك الثورى وترجمة لطموحها.
دافع بيومى طوال الوقت عن استقلال الثقافة، وسعى لبناء الوعى البديل عن هوية مصرية صاعدة تنسجم مع مشروع الثورة فى عمل قطيعة مع العالم العثمانى كما رأى د. أبو غازى أن فيلم برسوم يبحث عن وظيفة يعبر تماما عن مشروع الثورة ويعكس مشروعها السياسى فى التعبير عن المواطنة.
وكذلك طرح أفكارا مهمة عن الفيلم كوثيقة تؤكد دور السينما كمصدر مهم لكتابة التاريخ، وهو أمر يشير إلى الأهمية الفائقة للجريدة السينمائية التى تمثل مصدرا غنيا من مصادر كتابة تاريخ مصر لكنها لم تستغل بما يلائم أهميتها.
والحمد لله أن الصديق الخبير الاقتصادى الكبير عبدالفتاح الجبالى رئيس مجلس إدارة مدينة الإنتاج الإعلامى قد أخبرنى قبلها أن المدينة تمكنت أخيرا من ترميم جميع أعداد الجريدة وأصبحت متاحة بالكامل أمام الباحثين وهو جهد يستحق الشكر الجزيل، لكن ما يستحق الأسى بالفعل هو ما أشارت إليه الدكتورة ثناء هاشم فى حديثها عن فيلم (محمد بيومى) الذى أخرجه القليوبى لصالح المركز القومى للسينما التابع لوزارة الثقافة خلال عهد رئاسة المخرج هاشم النحاس، حيث أكدت هاشم أن النسخة الأصلية للفيلم تم فقدها تماما، وبالتالى لم تعد موجودة فى أرشيف المركز ومن ثم لا يمكن ترميمه من النسخة المتاحة على شرائط الفيديو، على الرغم من أهميته الفائقة وهى فضيحة بكل المقاييس، ومفارقة تثير الحزن، فالرجل الذى خاض معركة الكشف عن فضيحة بيع أرشيف السينما المصرية ذهب فيلمه بعد موته ضحية لإهمال فكرة الأرشيف بما يؤكد للمرة المليون أننا أصحاب أقدم تاريخ وأضعف ذاكرة.