نشر موقع درج مقالا للكاتب الفلسطينى ماجد كيالى تناول فيه الأحداث التى مرت على فلسطين فى عام 2021، مع عدم إحراز تقدم فى القضية الفلسطينية مع مرور 74 عاما على النكبة و57 عاما على الحركة الوطنية الفلسطينية.. نعرض منه ما يلى. مرّ العام 2021 من دون أى تغيير نوعى فى الوضع الفلسطينى، على الصعيدين الداخلى والخارجى، رغم أنه شهد هبّة شعبية عارمة عمّت كل فلسطين الجغرافية، كما شهد إزاحة بنيامين نتنياهو من موقعه كرئيس لحكومة إسرائيل، ورحيل إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب صاحب خطة «صفقة القرن»، الذى شكل كابوسا ثقيلا على القيادة الفلسطينية.
بيد أن ذلك العام شهد، مجدّدا، تعذّر قدرة الفلسطينيين على استثمار تضحياتهم وبطولاتهم، أو استثمار التغيرات الدولية والإقليمية، بسبب ضعف إمكانياتهم، وتخلف إدارتهم لأحوالهم.
شهدنا انكفاء جهود المصالحة بين حركتى فتح وحماس، وإقلاع السلطة عن إجراء انتخابات تشريعية، لتجديد شرعيتها واستنهاض أحوالها، وقيام إسرائيل بشنِّ حرب جديدة مدمرة على قطاع غزة، وتمنّع الإدارة الأمريكية الجديدة عن القيام بأى جديد للفلسطينيين يعدل ما فعلته إدارة ترامب، مع حماسها لاتفاقات التطبيع.
انتهى ذلك العام بتصريحات لافتة لمنصور عباس، عضو الكنيست الإسرائيلى عن القائمة الموحدة، وعن الحركة الإسلامية (الجنوبية)، لاقت ردود أفعال شديدة ومستنكرة، لتسليمه باعتبار أن «إسرائيل ولدت وستبقى يهودية». كما انتهت بمجرد تهديدات لإسرائيل، إن من قبل الرئيس الفلسطينى محمود عباس، بقرارات ستصدر من الاجتماع القادم للمجلس المركزى، أو بتلويح من قبل «حماس» بوقف التهدئة ومعاودة التصعيد؛ علما أنها تهديدات مكررة، لم تغير شيئا فى الواقع الفلسطيني ــ الإسرائيلى.
•••
ثمة محطات رئيسية، من وجهة نظرى، مر بها الوضع الفلسطينى، أهمها:
الإطاحة بعملية الانتخابات. كان الرئيس الفلسطينى محمود عباس أصدر مرسوما (يناير 2021) أعلن فيه الشروع فى تنظيم عملية انتخابية متكاملة، تبدأ بالانتخابات التشريعية، وتتم فى 22/5، ثم بالانتخابات الرئاسية، وتتم فى 31/7، وصولًا إلى المجلس الوطنى، على أن يتم ذلك فى 31/8. ومعلوم أن التوافق على هذا الترتيب جاء كثمرة للحوارات التى جرت بين الفصائل الفلسطينية، سيما الفصيلين الأكبرين والمهيمنين، «فتح» وهى السلطة فى الضفة و«حماس» وهى السلطة فى غزة، على امتداد العام 2020. بيد أن تلك العملية التى تأخّرت أصلا خمسة عشر عاما، بدت كأنها دبرت على عجل، وكأن المطلوب فقط تعويم النظام السياسى السائد، أو مجرد تجديد شرعيته بانتخابات شكلية، مع محاولة إقامة نوع من شراكة بين الحركتين المهيمنتين على النظام السياسى الفلسطينى، أى فتح وحماس، عبر قائمة مشتركة تجمع مرشحيهما أو عبر قائمتين منفصلتين، لكن متكاملتين.
بيد أن الآمال بتغيير أو إصلاح النظام السياسى الفلسطينى، وإرساء المصالحة الداخلية، سرعان ما تبددت؛ إذ أجهض الرئيس محمود عباس تلك العملية بإصداره مرسومًا بتأجيلها (أواخر إبريل)، معللًا ذلك برفض إسرائيل تمكين الفلسطينيين إجراءها فى القدس.
مع ذلك فإن هذه العملية حركت المشهد السياسى الفلسطينى، وبيّنت الحيوية المختزنة عند الفلسطينيين، وكشفت توقهم إلى إحداث تغيير أو فارق فى تعبيراتهم وعلاقاتهم وكياناتهم السياسية، رغم كل الإحباطات وحال الجمود، والفجوة بينهم وبين فصائلهم. وقد تجلى كل ذلك بالإقبال على التسجيل للانتخابات 93 بالمائة من أصحاب حق الاقتراع، وبـ36 قائمة لـ 1389 مرشحًا، 405 نساء (29 بالمائة).
نجم عن التأجيل (الإلغاء) عودة الخلافات بين حركتى فتح وحماس إلى المربع الأول، وتصدع «فتح» ببروز جماعات فيها خارج سيطرة الرئيس، وظهور أقطاب جدد مثل قائمة (الحرية) التى تزعمها الأسير القيادى مروان البرغوثى، الذى تحالف معه ناصر القدوة، عضو اللجنة المركزية لفتح، ما أدى إلى فصله من الحركة، ناهيك عن طرح محمد دحلان، القيادى السابق فى الحركة، لقائمة منافسة أيضا، والأهم انكشاف الوضع الفلسطينى عن هشاشة النظام السياسى ولا شرعيته وحاجته الملحة للتجديد، وعن الفجوة بين السلطة والشعب.
هَبّة القدس. جاءت هبة مايو الشعبية الفلسطينية، على خلفية محاولة إسرائيل انتهاك المسجد الأقصى، والتحكم بدخول الفلسطينيين إليه، فى سياق نهجها مصادرة المكان والزمان والرواية الفلسطينية. وقد ترافق ذلك مع محاولات اقتلاع عائلات فلسطينية من مساكنها فى حى الشيخ جراح فى القدس، ما يذكّر بأحداث النكبة (1948)، وذلك فى الذكرى الـ 73 للنكبة.
تميزت تلك الهبة بشمولها الفلسطينيين من النهر إلى البحر، أى بمشاركة واسعة من فلسطينيى 48، مشكلة نقلة غاية فى الأهمية فى إدراك الفلسطينيين لذاتهم كشعب، وفى طابع حركتهم الوطنية، علما أن تلك الحركة كانت سلّمت تاريخيا بالتعاطى معهم كخارج، وكمعطى داخلى فى المعادلة الإسرائيلية، بدعوى خصوصيتهم، بدل التعامل معهم بدلالة انتمائهم لشعب فلسطين. كما تميزت بتوحيدها السردية التاريخية للفلسطينيين، فى تأكيدها أن قضيتهم نشأت مع مواجهة المشروع الصهيونى، لاسيما مع إقامة إسرائيل، كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية، وتشريد الشعب الفلسطينى من أرضه (1948)، وليس فقط باحتلال الضفة والقطاع (1967)، وباعتبار أن إسرائيل هى المستوطنة الأكبر فى فلسطين.
بالنتيجة فقد أثمرت تلك الهبة فى تراجع إسرائيل عن مخططاتها فى باب العمود وحى الشيخ جراح (ولو مؤقتا)، قبل التحول من الهبّة الشعبية إلى العمل المسلح، وقبل إطلاق حماس لصواريخها، ما يرجّح تفسير ذلك التحول بسعى حماس الاستثمار فى اللحظة السياسية، لتعزيز مكانتها فى القيادة، ولتأكيد أنها صاحبة القرار فى الساحة الفلسطينية.
الحرب الإسرائيلية الرابعة على غزة. وجدت غزة نفسها فى مواجهة حرب رابعة، تضاف إلى سلسلة الحروب الوحشية والمدمرة التى تعرضت لها منذ سيطرة حركة حماس عليها (2007). حماس اعتبرت أن فرصتها التاريخية حانت، وأنه يجب الاستثمار فى أخطاء أبومازن، وفى تراجع مكانة فتح.
توقفت الحرب الإسرائيلية الرابعة على غزة، التى استمرت 11 يوما، تعمدت خلالها إسرائيل تدمير البنى التحتية، والمناطق السكنية والمؤسسات العامة، فضلا عن قتل أكثر من 234 فلسطينيا، وإصابة المئات، وتشريد حوالى 40 ألفا من بيوتهم.
التحول من الهبَّة الشعبية إلى الصراع المسلح، على شكل صواريخ مقابل صواريخ، كشف مجددا محدودية القدرات الفلسطينية، وقدرة إسرائيل الهائلة على التدمير فى ظل ذلك، كما بين أن هذا التحول أضعف من مسار تفاعل فلسطينيى 48، الذى هو أحد أهم ثمار هبّة القدس، وأحد أهم تطورات الكفاح الفلسطينى منذ عقود، بانتقالهم من هامش العملية الوطنية الفلسطينية، على اعتبار خصوصيتهم كمواطنين فى دولة إسرائيل، إلى قلب العملية الوطنية الفلسطينية، بدلالة انتمائهم لشعبهم، وفى تأكيد على وحدانية الشعب والقضية والأرض والرواية التاريخية.
التحول نحو الصراع المسلح لم يؤد إلى خلق معادلات جديدة لصالح الفلسطينيين، سيما لصالح رفع الحصار عن مليونى فلسطينى فى غزة، ولم يمكن الفلسطينيين هذه المرة، أيضا، من استثمار تضحياتهم وبطولاتهم، ثم إن هذه الحرب عززت مجددا الشرخ بين حماس وفتح، أو بين سلطتى الضفة وغزة، مع زيادة مخاوف القيادة الفلسطينية من ترسّخ هذا الشرخ بدفع دولى وإقليمى لإقامة كيان فلسطينى مستقل فى غزة بقيادة حماس، وفقا لخطة صفقة القرن أو خطة التسهيلات الاقتصادية أو لخطة «تقليص الصراع».
ثلاث صور مختلفة وتهديدان مختلفان. فى نهاية العام 2021 برزت ثلاث صور، الأولى، صورة الأسرى الستة (سبتمبر) الذين استطاعوا بعمل مضنٍ وطويل ومدهش تحرير أنفسهم من سجون الاحتلال، فى ظروف صعبة ومعقدة، التى أكدت على دور التصميم وحرية الإرادة والإدارة الرشيدة فى تحقيق أى إنجاز.
الثانية، وهى صورة مئات الفلسطينيين فى قطاع غزة (أكتوبر) الذين تجمعوا أمام أحد مكاتب العمل لتسجيل أنفسهم للعمل فى إسرائيل، وهى صورة نقيضة للصورة التى تحاول حماس ترويجها عن قطاع غزة، كقاعدة للمقاومة وفقط، من دون اعتبار لإمكانيات فلسطينى غزة وأوضاعهم الصعبة منذ 14 عاما من الحصار.
الصورة الثالثة، هى صورة انفجار مستودع تحت مسجد فى مخيم برج الشمالى فى جنوبى لبنان، مع صورة جنازة أحد ضحايا الانفجار نجم عنه إطلاق نار على الجنازة ومصرع أربعة أشخاص من المشيعين، ما يطرح السؤال عن جدوى السلاح الفلسطينى فى لبنان، وعن حقيقة وظيفته.
•••
كان ثمة تهديدان لإسرائيل من الرئيس الفلسطينى محمود عباس، ومن حركة حماس، أبرزهما التصريح المشين لمنصور عباس، وهنا ثمة سؤال بريء وافتراضى مفاده: هل كان منصور عباس، أو أى أحد أخر، يتجرّأ بما صرح به (حول يهودية الدولة أو بما يشبه ذلك) لولا أن القيادة الفلسطينية ذاتها تجرّأت على السردية الوطنية المؤسسة، وأزاحتها، بعقدها اتفاق أوسلو، وبنقلها تلك السردية من ملف النكبة 1948، إلى ملف الاحتلال 1967، وضمن ذلك اختزال قضية فلسطين وشعبها، والصراع مع إسرائيل، باحتلال الضفة والقطاع؟
أقصد أن الإحباط الفلسطينى من التهديدات السياسية و«العسكرية»، هى التى تسهل ذلك. فكم مرة طرحت مقولة «سنزلزل الأرض تحت أقدام إسرائيل»، وكم مرة اتخذ المجلس المركزى أو المجلس الوطنى قرارا بوقف التنسيق الأمنى مع إسرائيل، وجرى التراجع عن ذلك بقرار من الرئيس!
يمكن مراجعة مقررات دورات المجلسين المركزى والوطنى، فثمة قرار غاية فى الأهمية والخطورة يجرى نسخه أو تكراره كل مرة، ينص على: «إن علاقة شعبنا ودولته مع إسرائيل هى علاقة تقوم على الصراع بين شعبنا ودولته الواقعة تحت الاحتلال وبين قوة الاحتلال». هذا يعنى أنه فى قاموس تلك القيادة بات الصراع بين مجموعتين قوميتين، بحل وهمى فى دولتين، وذلك يعنى أساسا نسيان طبيعة إسرائيل التى قامت فى 48 كدولة استعمارية واستيطانية واحتلالية وإجلائية وعنصرية».
فى العام 2022 يكون قد مر على نكبة فلسطين 74 عاما، وتكون الحركة الوطنية الفلسطينية بلغت 57 عاما من عمرها، لكن لا يبدو أن تلك الحركة تكبر بقدر تجاربها الغنية، وبقدر تضحيات ومعاناة شعبها.
57 عاما، يا للهول!!
النص الأصلى