ربيع زهر الليمون - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 1:31 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ربيع زهر الليمون

نشر فى : الأربعاء 29 مارس 2017 - 9:20 م | آخر تحديث : الأربعاء 29 مارس 2017 - 9:20 م
فجأة، فى صباح ربيعى مبهج فى إشراقته ودفء شمسه، تبدأ اللحافات بالظهور على شرف الشقق، وتتدفق معها رائحة مسحوق الغسيل. تخلع الشبابيك ستائرها فتبدو عارية، وتمتلئ الأوانى بالماء والصابون، فترقص الفقاعات مع الريش الهارب من اللحافات. تنهمك الأيادى بغسيل السجاد قبل أن تودعه البيوت حتى الشتاء التالى، وتصطف على حبال الغسيل الملابس الصوفية الثقيلة التى تتحضر هى الأخرى لرحلة الصيف، فهى سوف تحتجب عن الظهور حتى إشعار آخر. يبدو لى أن جميع بيوت دمشق قد تخرجت من مدرسة واحدة تؤمن بأهمية أن تتم معاقبة السجاد على تحمله سكان المنزل، فتضربه سيدة الدار بالمكنسة قبل أن تغسله وتخرجه إلى الشمس حتى ينشف، ثم تلفه لترفعه بعيدا عن الأرجل إلى أن تحتاج إليه فى الشتاء. أرضيات منازل دمشق تكشف عن عريها فترة الصيف، فالبلاط البارد قد يخفف من حرارة الفصل.
***
هناك طقوس لا تجرؤ البيوت الدمشقية على معاكستها، وهى طقوس تبنى عليها سمعة سيدة المنزل: إن احترمتها لاق بها لقب «ست بيت ممتازة»، وإن تجاوزتها بحثا عن طرق أقل مشقة أو أكثر حداثة، أصبحت موضوع حديث الجارات أثناء إحدى «الصبحيات».
«تخيلى أنها لا تغسل الحيطان»، تهمس إحداهن بالإشارة إلى عادة غسل الحيطان من السقف إلى الأرض، وذلك بمسحها بقطعة قماش مبللة يتم غسلها مرارا وتكرارا. عدم غسل الحيطان يمكن أن يكون سببا رئيسا وراء إلحاق ألقاب تشير إلى نقص النظافة عند أفراد البيت برمته. «معقول ما فكت البرادى (أى الستائر) بين الصيف والشتا؟» تسأل الأخرى مستهجنة قرار إحداهن عدم تجريد الشبابيك من لباسهن فى أحد المواسم بغية غسلها وكيِّها قبل إعادتها إلى أماكنها فوق الشبابيك. «شكلها مو من الشام (أى دمشق)» تقول الثالثة وكأن فى ذلك تفسير منطقى لعدم التزام من يتحدثن عنها بالبروتوكول المتعلق بالتنظيف.
***
فى الربيع، تزهر بساتين الغوطة التى تحيط بدمشق، وهى بساتين لطالما مدت دمشق بالخضار ومختلف أنواع الفاكهة، ولطالما تغنى بها الدمشقيون. فى الربيع ينحشر أفراد العائلة فى سيارة ويضعون لوازم الطبخ والشواء فوق وتحت أرجلهم وهم يتوجهون إلى البستان لقضاء اليوم. تكون سيدة البيت قد أشرفت على تنظيف البيت مستخدمة أساليب أقل ما يمكن وصفها به أنها عنيفة، من ضرب الفرش لإخراج التراب منه إلى دعك السجاد بالصابون الحلبى المصنوع من ورق الغار وزيت الزيتون، إلى فرك الحيطان بقطعة قماش مبلولة بالماء النظيف. فى الربيع يكون يوم الجمعة هو يوم الراحة حتى لسيدة البيت التى تجلس فى السيارة وعلى حجرها بطيخة سوف يقطعها زوجها فى البستان. هى أعدت قبل أن ينطلقوا بعض الأكلات الخفيفة التى سوف تأكلها أسرتها، إنما عموما سوف تفرد الأم جسدها على بساط ملون تمده فى البستان وتجلس لساعات تنظر إلى أطفالها وزوجها يستمتعون بيومهم.
أعترف أننى لم أشارك كثيرا فى هذا النوع من أيام الجمعة. إذ لم أنتم إلى أسرة تقدس مشوار الغوطة حتى ولو أننا رافقنا أقرباءنا إلى البساتين عدة مرات فى طفولتى، لكن دون أن يكون ذلك المشوار طقسا من طقوس منزلنا. قد يكون السبب هو والدى الحلبى، الذى لم ينشأ على أهمية الغوطة فى أيام العطل. أو قد يكون السبب أننى عشت مع عائلتى خارج سوريا فى طفولتى، فلم تترسخ لدينا بعض العادات بحكم البعد. لكن الحديث عن الربيع وزهر الليمون لم يتوقف من حولى قط. كما لم تتخل والدتى الدمشقية عن طقوس التنظيف فى الربيع.
***
اليوم ومع الدمار الذى لحق بسوريا، سواء دمار الحجر أو البشر، أتساءل إن كنا يوما ما سوف نمارس طقوسا مقدسة للتنظيف فيما بيننا. نرش الشوارع بالماء والصابون فنغسل الدم، نفرك القلوب بقطعة قماش مبللة بماء الزهر فنصفيها من الكراهية، نمر بقطعة قطن غمسناها بحليب اللوز فوق الجروح فتلتئم. نحشر الجيران من جديد فى سيارة صغيرة فيضطرون أن يتعايشوا فيما بينهم مسافة الطريق التى تبدو لهم فى البداية أنها أزلية لشدة ضيق المكان بهم وضيقهم ببعضهم البعض، لكنهم سرعان ما تنفك أساريرهم حتى قبل أن يصلوا إلى البستان.
***
هل من طريقة لرمى برد الشتاء وقسوته وراءنا كما كان يفعل الدمشقيون حين تزهر الغوطة؟ هل ستزهر الغوطة أصلا هذا العام، وهى موقع بعض أشد المناطق حصارا وجوعا وحربا فى سوريا اليوم؟ يعز على الدمشقية التى فى داخلى أن تتخيل ربيعا دون زهر الغوطة، وأن تكاد تشم رائحة الموت بدلا من رائحة صابون الغار فى هذا الموسم شديد الخصوصية على أهل دمشق. فبدل غسل البيوت ها نحن نسمع عن البيوت المغلقة والستائر المسدلة، وبدل مشوار البستان تطالعنا صور النزوح على متن سيارات الشحن وقوارب النجاة. وبدل زهر الغوطة وفاكهتها نسمع عن جوع أهل الغوطة وفصلهم عن موارد الحياة.
***
من الصعب اليوم تخيل مشوار الغوطة وصوت الأولاد وهم يلعبون بين الأشجار، لكننى ومع زحفنا نحو الصيف إنما تجتاحنى حاجة خانقة لنفض الغبار من على القصص، وغسل قلوب الأمهات بماء سحرية قد تخفف من حزنهن. أريد أن أدعك دمشق بالصابون الحلبى، وأن أعيد إلى حاراتها القديمة رائحة الربيع، ربيع لا دم فيه ولا موت، ربيع بسيط ككل ربيع، نرمى فيه رداء الشتاء ونعرى بيوتنا وقلوبنا من الثقل. ربيع زهر الليمون بدل شتاء الموت.

 

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات