أحرصُ على حضور افتتاحِ مُؤتمَر اللغة العربية الذي يقيمه المَجمَع المِصريّ سنويًا؛ لا لأنني أتوقع الجديدَ، أو أتصور أن بعضَ التوصيات التي انتهت إليها المؤتمرات السابقة، قد أخذت حظَّها مِن التنفيذ، وصارت واقعًا يعلنه علينا المسؤولون مِن خارج المَجمَع، أبدًا؛ أحرص على الحضور؛ فقط كي أسمع مَن ينطق سليمًا، لا يتلَجلَج أو يتلَعثم، أو يتخلّى عنه اللسانُ الفصيح؛ فيصمت حائرًا عاجزًا عن استئناف الكلام، أو ردّ السجال، أو إجابة السائلين. لفنون الحديث في فضاءٍ عام أهل.
***
الفصاحةُ في مَعاجم اللغة العربية هي البَيان، والكلام الفَصِيح هو البَلِيغ، وإذا قيل رجلٌ فصيحٌ؛ فالمقصود أنه طَلق اللسان، يَعْرف جَيِّدَ الكلام من رديئه. يقال فَصُحَ الصبيُّ في مَنْطِقِه إذا فَهِمه السامعون على الفور، وبالمثل يُوصَف غير العربيّ إذا تكلم بعربية واضحة قويمة، وجادت لغتُه حتى لا يلحن. أَفْصِحْ ولا تُجَمْجِمْ؛ أي اجعل كلامك واضحًا مفهومًا، واليوم المُفْصِح هو يومٌ لا غَيْمَ فيه، أما الإفصاح عن أمر مِن الأمور؛ فكَشفه وتبيينه.
***
"الديكُ الفصيح مِن البيضةِ يصيح"؛ مَثَلٌ مصريّ شهير، يؤكد أن ثمَّة عطايا وسِمات يُولد المرءُ بها؛ فتميّزه منذ البواكير وتعلن عن نفسِها. هناك مَن يتبدى حِذقُه وعشقُه للجدل طفلًا، ومَن يُفطَر مُتأملًا صَمُوتًا وينحو إلى الإنصات والتفكير، ومَن يُعرِب عن ميلٍ أصيل للمشاكسة والمنافسة، أما الفصيح فلا يكُف مِن يومه عن الحديث؛ مُجيدًا للقول، مُحسنًا للتعبير. ما سيكونه الديك مُستقبلًا، يظهر في مسلكِه وفعلِه وهو بعد كتكوت.
***
قليلون مِن أصحابِ المناصب بوجه عام؛ يملِكون فصاحةً وقوةَ بيانٍ، تتيح لهم ارتجالَ خطابٍ لافت. قليلون يمكنهم دخولَ نقاشٍ لفظيّ دون الوقوع في أخطاءٍ فاحشة، تؤذيهم أول ما تؤذي؛ فتُضعضِع حجَجَهم، وتهدم مَنطقَهم، وتجعل قولَهم مَثارَ تندر وتنكيت.
***
تابعت على مدار الأسابيع الماضية أعضاءَ مَجلس النواب البريطانيّ، خلال مُناقشات بريكست؛ فما رأيت في كثيرهم إلا حضورًا قويًا، ولسانًا مُنطلقًا، وقولًا مَحبوكًا. لا مجال لإطالةٍ، ولا مساحات لألفاظٍ مَرصوصةٍ في عشوائية. مُقارنةٌ سريعةٌ بالحال عندنا تفضح المَستور بين الجُدران، فلا عبارة تنجو مِن حادث لغويّ مُريع، ولا كلمة تبرأ مِن التلحين، والحقُّ أن طلاقةَ الحديث مَوهبةٌ في جانب منها؛ لكنها أيضًا مُمارسةٌ مُتكررة، وقبل هذه وتلك؛ عنايةٌ، واهتمامٌ، وإدراكٌ لأهمية الكلمة وأثرها، وحرصٌ على إقناع الآخرين.
***
أَجهَدَت أسماعَنا أحاديثٌ مُهلهَلةُ البناء، فاسدةُ اللغة، في ارتجال أصحابها اعتداءٌ على كُلّ جميل، قد يحملون مِن الألقاب والشهادات ما يوحي بامتلاك مَعرفةٍ صادقة؛ لكن الكلامَ الخارج عن أفواهِهم يُرهق مَن يحاول وزنه وقياسه وربط أجزائه؛ إذ هو عن أدنى المعايير وأكثرها تسامحًا؛ بعيد. بين هؤلاء مَن لا يقيم وزنًا لسامعه، ولا يعبأ بانطباعه، بل ومَن يُجبِر الجمهور على التمايُل إعجابًا، وإلهاب الأيدي له بالتصفيق.
***
ارتجالُ الشعر يعني قرضَه بغير تهيئةٍ ولا تحضير، وقديمًا تبارى شعراءُ العرب في ارتجالِ الأبيات، بل والقصائد الكاملة، وصارت بينهم مُقارعاتٌ يفوز بها الأمهر نَسجًا والأكفأ نَظمًا. يختلف الأمر قليلًا ويتسع في مَجال الخطابة لنوعين مِن الارتجال، فقد يبدأ المتحدث خطبته دون سابق إعداد، وقد يستدعي ما أعده سلفًا من الذاكرة؛ مُتخليًا عن الورقة المكتوبة. الحالُ الأولى هي ارتجالٌ للمعاني والأفكار، بينما الثانية تقتصر على ارتجال الألفاظ. على كُلٌ، يتطلَّب الارتجال المقبول إلمامًا بالموضوع مَحَلَّ القول، وبعضًا مِن الثقافة وشيئًا مِن الجاذبية والحضور، وقدرة على وصل الحديث ما انقطع لسبب أو آخر، وفي هذا يقول أبو عبيدة "وإن أحدثوا شغبًا يقطع نظمَها ... فإنك وصَّالٌ لما قطَعَ الشغبُ". لا مَفرَّ أيضًا مِن ذكر الدرايةِ بقواعد اللغة الأساسية؛ فما يرضى أحدٌ بنصبِ الفاعلين ورفع المَفعولين؛ إلا في ظروف لا علاقة لها بالنحو والصرف.
***
مِن بؤس الحال أن استبشر الناسُ خيرًا بخُطبةٍ تقرر توحيدُها في الجوامع؛ إذ بعضُ الخُطباء قد تدنَّت بهم الأوضاع؛ فضعفت بداهتُهم وضحلت معارفُهم، حتى صارت القراءةُ مِن ورقة مَفروضة عليهم؛ تُحدد الموضوعَ وتُعيّن المُفردات، أهون مِن الإنصات لارتجالهم.
***
في مُناسبة شبه عامة، يُسمَح بحضورها لجُمهور المُهتمين دون تخصيص؛ أمسك مسئولٌ رفيع المَنصب بمُكبر الصوت، وراح يرحب بالضيوف والحاضرين، ويشيد بالمكان والتنظيم. دهشت للكسرة التي ختمت تلفُّظاتَه جميعها؛ فالفاعلُ على لسانِه مَكسور، والمَفعولُ به مَكسور، والحالُ كذلك مَكسورة، وذاك عند العالمين بقواعد اللغة مِن المُستحيل. مِن عَجَبٍ أنه لم يرتجل الكلامَ مُكلفًا نفسه ما لا طاقة له به، بل قرأ علينا وبئس ما قرأ؛ فلا براعة الأقدمين ولا اجتهاد المُحدِثين.
***
غنى الشيخ إمام للكلمة، وكتب عنها صلاح جاهين؛ إذ هي يد، ونور، ونار، ونجم متوهج، وهي أيضًا دَينٌ لا يفي به إلا حرٌّ. تحولت كلماتنا إلى سجون تقيدنا، وتعوّق في كثير الأحيان حركتَنا، فلا بأس إذًا مِن مُعاودة النظر، لعل في استعادة مكانتها، واسترجاع رونقها وصلابتها، ما تقوى به شوكتُنا وتستقيم .