منذ أيام قليلة؛ أصدر أبناءُ الصحفيّ الشهير الذي لقي حتفَه غيلة؛ بيانًا يُفيد عفوَهم عن قَتَلَةِ والدهم. تداولت وسائلُ الإعلام الخبرَ بصورةٍ عابرة؛ وسط أخبار الفيروس المتلاحقة التي تحتل الصفحات كاملةً وتملأ الشاشاتِ، وتنتشر مع ذراتِ الهواء والماء وتدفع بعيدًا ما عاداها. البيانُ الذي جاء في تغريدة إلكترونية كما اعتدنا مؤخرًا عند بَثِّ تصريحاتٍ أو معلوماتٍ جديدة؛ وُصِف مِن عديد المتلقين بأنه مُقتَضَب؛ بضع كلمات لا أكثرَ ولا أقل: "نُعلِن نحن.. أنّا عفونا عمَن قتلَ والدنا".
***
قُتِلَ الصحفيُّ في نهايات عام ألفين وثمانية عشر وتحديدًا في شهر أكتوبر، قُطعَت أوصالُه وتبعثرت الأشلاءُ؛ حتى لم يُعثَر له على جثمان كامل يتسنَّى دفنُه. وُجّهَت أصابعُ الاتهام إلى أسماءٍ عدَّة كان حضورها في المكان علامةً على اشتراكِها في الجريمة، أو على أقل تقدير إشارة إلى تواطؤها. تحت إلحاحِ المُجتمَع الدوليّ أخذت التحقيقاتُ مَجراها؛ مستقيمًا كان أو معوجًا، صارمًا أو متراخيًا، ثم أُدين قسمٌ مِن المُتهمين ونالوا أحكامًا متنوعةً وصل بعضُها إلى الإعدام،لكن لم يتم البت فيها بصورة نهائية.
***
حظي بيانُ العفو باعتراضاتٍ مُتناثرة وبأصواتٍ غاضبة، رافضة لما يُمكِن أن يترتبَ عليه لاحقًا؛ فثمة حقٌّ للمجتمع لا يكفي أن يتغاضى عنه فردٌ، وإن كان هو صاحب المسألة والقضية. القتل المُدَبَّر الذي تتوفَّر فيه النية ويُكلّله القصدُ، ويتم الإعداد له مُسبقًا؛ له عقاب لا يُمكن لأحد حذفُه أو رفعه؛ لكنها الظروفُ والأوضاع التي انقلبت رأسًا على عقب، فأباحت دماءَ الضحية.
***
نحفظ عن ظهرِ قلب أن مِن بين جَميل الفضائلِ وعظيمِ الشمائلِ؛ عفوَ المَرءِ عمَن أساءوا له عند المَقدِرة. القادر هو مَن مَلَك ردَّ الإساءةِ ومُحاسبة المُسيء؛ لكنه مع هذا اختار أن يعفوَ، وأن يمتنعَ عن استردادِ حقّه؛ بكاملِ إرادتِه وحريَّته.
العفوُ تسامٍ ومُسامَحةٌ في مرات، وقهرٌ وإجبارٌ في مراتٍ أخرى، وشتان الفارق ما بين عفو من تجاوز عن الأذى وغَفر، وعفو مَن تمَنَّى القصاصَ ولم يجد إليه سبيلًا؛ الأول يحمل القوة والثاني يحمل الضعف، الأول مرادف للعزة والترفع والثاني مُرادِف للمذلَّة، ولا يستوي عزيزٌ وذليلٌ بأي حال. العفو حال التعرُّض إلى ضغطٍ وقَسر؛ ليس عفوًا بالمرَّة.
***
مع حلول الأعياد والمُناسبات الرسميَّة؛ يصدر عفوٌ دوريٌّ عن عشرات المساجين؛ قائمة منتظرة بفارغ الصبر؛ ففيها الخلاص من معاناة قاسية وكرب طويل. جرت العادة على أن تُنقَلَ إلينا صورةُ المَعفو عنه فور خروجه مِن الأبوابِ الحديديةِ وعبورِه الأسوار؛ وهو ينحني ويخرُّ سجودًا. يمسُّ بكفَّيه وجبهتِه الأرضَ وربما يُقبّلها. بعضُ هؤلاء يتصرَّف تلقائيًا وبعضُهم يتم دفعه لأداء طقس السجود؛ رمزًا ودلالة لا تخطئها عين ولا يتوَلَّى عنها عقل.
***
بعيدًا عن البَشر وأفاعيلِهم ومسالِكهم البائسة، تنال الكائناتُ غير العاقلةِ بدورها عفوًا؛ أطرفه ذاك الذي تحظى به الديوكُ الرومية في عيد الشُّكر؛ إذ يُعلِن رئيسُ الدولة العظمى أنه قد أعتق الطائرَ السَّمين من الذبح وأسبغ عليه الأمانَ وأعطاه الحرية. العفو الرئاسيّ تقليد قديم، وطقسُ الاحتفال فيه مَراسِم وخُطوات معروفة، والرئيسُ في حُكم القادر المُتجبّر؛ يمارس دورَه بمَزيجٍ مِن التعالي والسرور.
***
إذا اشتدَّ البلاءُ وتفاقَمَ وخرَجَ عن السَّيطرة، وشَعُر الناسُ حياله بالضآلة، وعجزوا عن التعامل معه؛ تصوروا أنه عقابٌ إلهيّ على خطأ اقترفوه؛ فتركوا الأسبابَ وتوسَّلوا العفوَ والرحمةَ؛ العفو بانتشالهم مِن عثرتِهم، والرحمة بالتغاضي عن مساوئِهم، أما إذا دعا داعٍ في الأحوال العادية، قال: عفوك ورضاك.