نشر موقع 180 مقالا للكاتب توفيق شومان تناول فيه تاريخ وحاضر حى الشيخ جراح ومقاومته لمحاولات احتلاله من قبل الإسرائيليين... نعرض منه ما يلى:
تقدم حى الشيخ جرّاح المقدسى، إلى صدارة العناوين، إقليميا ودوليا، بحيث أصبح عنوانا لحرب الأيام العشرة زائد واحد، ومن شأنه أن يتحول إلى عناوين متكررة لحروب مقبلة بين الفلسطينيين والاحتلال، لا يفصل حرب عن أخرى إلا فواصل زمنية محددة.
حى الشيخ جرّاح، على ما يقول الإسرائيليون، إما يجرى ضمه فيكون رمزا لقدس موحدة «عاصمة» لإسرائيل، أو رمزا لتقسيم مدينة القدس، وهو أمر مرفوض لدى تجمع الليكود وحلفائه فى اليمين الإسرائيلى.
لكن.. ما قصة حى الشيخ جرّاح؟ ماذا عن تاريخه؟ وماذا فى سيرته وأيام زمانه؟
فى الجزء الثانى من كتاب «الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل» لمجير الدين الحنبلى (1455ــ 1523) المعروف بقاضى القضاة والعائد بنسبه إلى الخليفة عمر بن الخطاب، أن «الجرّاحية زاوية بظاهر القدس من جهة الشمال، ولها وقف ووظائف مرتبة، ونسبتها لواقفها الأمير حسام الدين الحسين بن شرف الدين عيسى الجرّاحى، أحد أمراء الملك صلاح الدين، ودُفن بزاويته المذكورة، وبظاهر الزاوية من جهة القبلة قبور جماعة من المجاهدين يقال إنهم من جماعة الجرّاحى، والله أعلم».
وعلى هذه الحال، تعود تسمية حى الشيخ جرّاح إلى أحد الأمراء المقربين من صلاح الدين الأيوبى على ما يرى مجير الدين الحلبى، ولكن عبدالغنى النابلسى (1641ــ1730) المشهور بـ«علامة الشام»، يعتبره شيخا وأميرا وله مزار، ففى كتابه «الحضرة الأنسية فى الرحلة القدسية» يقول «وصلنا إلى مزار الشيخ جرّاح، فوقفنا هناك وقرأنا الفاتحة، وهذا المزار فى المدرسة الجرّاحية، نسبته لواقفه الأمير حسام الدين الحسين بن شرف الدين عيسى الجرّاحى، أحد أمراء الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب».
ويبدو أن علو شأن ومقام الأمير حسام الدين الجرّاحى ودوره الكبير فى التصدى للهجمات الصليبية واستعادة مدينة القدس فى عهد صلاح الدين الأيوبى، جعلت منه وليا من الأولياء الصالحين فى المخيلة الشعبية والتاريخية.
تلك صفحات من جعبة التاريخ، ماذا فى جعبة الحاضر؟
***
بهجت أبو غربية (1916ــ 2012) واحد من القادة الفلسطينيين الذين عايشوا تطورات القضية الفلسطينية وشاركوا فى مفاصلها ومساراتها النضالية حتى لحظة الرحيل، فالرجل خاض وقاد معارك عسكرية كبرى قبل النكبة وبعدها، وهو يصف فى الجزء الأول من مذكراته «فى خضم النضال العربى والفلسطينى» أهمية حى الشيخ جرّاح، حيث كان قائدا ميدانيا، فيقول:
«كنا نعير حى الشيخ جرّاح اهتماما كبيرا، واليهود يعيرونه الاهتمام نفسه، لأنه الحاجز الرئيسى بين المواقع اليهودية الرئيسية فى الأحياء الغربية وبين حصونهم على جبل الطور فى مجمع الجامعة العبرية ومستشفى هداسا التى تقع خلف خطوطنا، لذلك كان احتلال الحى هدفا رئيسيا لليهود، لأن احتلالهم إياه، يعزل القدس عن رام الله ونابلس فى الشمال، ويطوّق جميع المنطقة العربية شمالى سور القدس بشكل نصف دائرة».
لم تتغير الجغرافيا، وحى الشيخ جرّاح ما زال قائما فى مكانه، ومن زاوية المكان نفسها يمكن فهم الإجراءات الإسرائيلية التى تطل برأسها، بين حين وآخر، لإخلاء حى الشيخ جرّاح من سكانه العرب الفلسطينيين.
فى كتابه السابق الذكر، يتحدث بهجت أبو غربية، عن محاولات إسرائيلية عدة لاحتلال حى الشيخ جرّاح، ومثله يفعل عارف العارف فى كتابه التفصيلى «نكبة فلسطين والفردوس المفقود»، ومنها على سبيل المثال، واقعة 13 و15 يناير 1948 ثم 26 أبريل فى السنة عينها، ثم واقعة مايو حين استطاع الإسرائيليون اقتحام الحى، ولكن المقاتلين العرب والفلسطينيين استردوه فى التاسع عشر من الشهر ذاته، وفى الخامس عشر من يونيو 1948، استولى الإسرائيليون مجددا على حى الشيخ جرّاح، بيد أنهم خرجوا منه بعد خمسة أيام فقط، جرّاء هجوم مضاد عربى ــ فلسطينى كبير وعالى التنسيق والتخطيط.
***
فشل الإسرائيليون فى الاستيلاء على حى الشيخ جرّاح بعد «قيام الدولة»، فانتظروا إلى ما بعد حرب الخامس من يونيو 1967، وكان لهم أن احتلوا القدس الشرقية وما تبقى من البحر والنهر، ومذاك شرعوا إلى استخدام قوتين: قوة الاحتلال وقانون القوة.
ماذا يعنى قانون القوة؟
لا بأس لو كان «الشاهد» صحيفة إسرائيلية.
تحت عنوان «اتركوا سكان الشيخ جرّاح فى بيوتهم»، كتبت تاليا ساسون فى «هآرتس» بتاريخ 22 مايو 2021، فقالت «فى عام 1950 تم سن قانون أملاك الغائبين، الذى يحدّد طريقة نقل الأراضى التى كانت بملكية الفلسطينيين، ونقلها لسلطة التطوير، بهذه الطريقة تم نقل أملاك الفلسطينيين الغائبين لليهود، حسب المحكمة العليا، وخلف الكلمات الجميلة شكّلت سلطة التطوير قناة لنقل ملكية آلاف الدونمات التى تعود للفلسطينيين إلى اليهود، وفى عام 1970 قامت إسرائيل بسن قانون ترتيبات القضاء والإدارة فى القدس الشرقية، وقررت أن سكان شرقى القدس العرب لا يعتبرون غائبين، وهكذا أوجدت إسرائيل مسارا قانونيا من خلاله يمكن إخراج السكان الفلسطينيين من بيوتهم».
تلك هى القصة، فماذا بعدها؟
قد لا يأتى القول بجديد، حين يشار إلى أن حرب غزة الأخيرة التى سمتها إسرائيل «حارس الأسوار»، إنما انطلقت على خلفية المساعى الإسرائيلية لإخراج عائلات فلسطينية من منازلها فى حى الشيخ جرّاح، وإذ انتهت الجولة بتكريس معادلة غزة مقابل القدس وتل أبيب، فإنها انتهت أيضا إلى تجميد إخلاء العرب الفلسطينيين من منازلهم، وهذا التجميد بقدر ما أعاد إلى الواجهة معارك حى الشيخ جرّاح فى الأربعينيات، فإنه أعاد أيضا السؤال الكبير إلى واجهة المصير: لمن السيادة فى القدس الشرقية ومن ضمنها حى الشيخ جرّاح: لإسرائيل أم للفلسطينيين؟.
السؤال السابق، بات محور النقاش الدائر بين السياسيين وقادة الرأى فى إسرائيل، وفى ذلك، كتب يائير غولان (جنرال سابق) وتشاك فرايليخ (النائب السابق لرئيس مجلس الأمن القومى الإسرائيلي) فى «هآرتس» (26 مايو الحالى) فقالا «مع توقف المعارك لا مفر من الاستنتاج أن ميزان الإنجازات يميل لصالح حركة حماس، فى عملية حارس الأسوار سقطت أسوار كثيرة وحققت حماس أهدافها الأساسية منذ بداية المعركة، وعلى الصعيد الاستراتيجى، نالت الأسبقية فى النضال على مستقبل الحكم الفلسطينى، وربطت نضالها بالنضال من أجل القدس، ونصبت نفسها مدافعا عن الأقصى»، ومن المنظور نفسه كتب يوسى يهوشع فى «يديعوت أحرونوت» بتاريخ 22 من هذا الشهر، فقال «شئنا أم أبينا، حماس خرجت أكثر قوة، وأعادت قضيتها إلى الوعى الدولى، ووقفت درعا حاميا للقدس».
ذاك بالنسبة للقدس، وحول حى الشيخ جرّاح، يقول البروفيسور إفرايم كرش فى تقدير موقف نشره «مركز بيجن ــ السادات» فى الثالث والعشرين من هذا الشهر «حماس رفعت الرهان وهدّدت بشن هجوم صاروخى على القدس، وطالبت بانسحاب القوات الإسرائيلية ووقف قرارات محكمة الشيخ جرّاح، لا يمكن لدولة ذات سيادة أن تقبل بإملاءات منظمة إرهابية»، وفى اليوم نفسه، كتب غيورا آيلند «التوتر بدأ عندما هدّد محمد ضيف بأن إخلاء العرب من هذا الحى ليس مقبولا، إن كل تنازل اسرائيلى فى هذا الموضوع سيُعد خنوعا معيبا»، وفى عدد صحيفة «يسرائيل هيوم» فى الثانى والعشرين من مايو الحالى، كتب نداف شرغاى «فى موضوع الشيخ جرّاح من المحظور المساومة، فالاستجابة لمطالب حماس ستكون سابقة خطيرة، غدا سيطالب الفلسطينيون بتجميد وإخلاء اليهود من نقاط استيطانية مختلطة أخرى فى القدس مثل حى داود والبلدة القديمة، بل سيطرحون مطالب مشابهة بالنسبة للد أو عكا».
ماذا يعنى ذلك؟
يعنى أن «القدس قابلة للانفجار فى أيّ لحظة»، كما كتب نير حسون فى «هآرتس» فى الخامس والعشرين من هذا الشهر، وهذا ما يراه عاموس هرئيل فى الصحيفة نفسها (26 مايو 2021) حيث كتب بعنوان «صواعق التفجير بين غزة وإسرائيل لا تزال على حالها».
ثمة امتحان قريب أمام بنيامين نتنياهو، ذلك أن المحكمة الإسرائيلية العليا، أجّلت قرار إخلاء السكان الفلسطينيين من منازلهم إلى الثامن من يونيو المقبل، وهذا التاريخ لناظره قريب.
النص الأصلى هنا