أحب كتابة الروائى الشاب أحمد الفخرانى واعتبر نفسى من المحظوظين الذين تابعوا تجربته الابداعية منذ البداية.
تزاملنا فى صحيفة «البديل» منذ أن جاء إليها وهو مجند فى سلاح الخدمات الطبية لكنه يريد أن يكتب.
لم نستوعب أن هناك من يرغب فى ترك الصيدلة من أجل الكتابة، لكنه فعلها وسار على خطى صلاح حافظ ويوسف إدريس ومحمد المخزنجى وانحاز للكتابة وترك الطب وصناعة العقاقير ووجد الدواء فى مكان آخر.
أصدر ديوانا بالعامية المصرية بعنوان: «ديكورات بسيطة» حمل نكهة مغايرة ظلت مع صاحبه الذى أخذ الشعر لكتابة أخرى تتكئ على معناه وتذهب به إلى مسار غرائبى يقوم على اللعب بالمفهوم الجمالى.
وكتب مجموعة من البورتريهات السردية التقطت أوجاع أبطالها من أرصفة الشوارع ونشرها فى زاوية صغيرة كان يحررها بعنوان «فى كل قلب حكاية» تحت إشراف الكاتبة الصحفية الكبيرة كريمة كمال التى وجدت أنه ينتمى مثلها إلى «الكتابة الحرة» التى اخترعتها مجلة «صباح الخير» ومنحته الرعاية التى صانت موهبته وحافظت على طابعها الخاص ولم ترض له ان يكون نسخة باهتة من أقلام أخرى.
مال الفخرانى عبر مشواره الصحفى القصير لكتابة التحقيقات بلغة أدبية كشفت عن موهبة حارقة تجلت بوضوح فى الفترات القصيرة التى عمل خلالها فى «أخبار الأدب» ثم «الشروق» و«المصرى اليوم» وترك رصيدا من التحقيقات المهمة وأبرزها تحقيق عن السيرك القومى ولأنه من محترفى القلق، لم يرغب فى أى نوع من الاستقرار المهنى مفضلا التفرغ التام للكتابة الروائية التى جاءت لتنتمى إلى خيال جديد غير تقليدى يستجلب عوالمه من مخيلة كارتونية باذخة.
وظهرت روايته القصيرة «مملكة عصير التفاح» كرواية للفتيان وكانت أولى ثمار هذا الخيار وبعدها غمرنا بعوالم سوريالية غرائبية وتوالت أعماله بإيقاع منتظم.
وتأكدنا أن لديه ما أسميه بـ«الخيال الكريم» وتقاطعت كتاباته ومنها «ماندرولا» و«عائلة جادو» مع ما أنتجه السرد بعد 25 يناير من نصوص تنتمى فى معظمها إلى (الديستوبيا ) أو أدب المكان الخبيث ولم تخلُ من تناصات واشتباكات مع عوالم راسخة لكتاب كبار أولهم نجيب محفوظ الذى يتجلى حضوره فى رواية «بياصة الشوام» التى فازت بجائزة ساويرس الأدبية لهذا العام. واعتمد فيها على إعادة إنتاج الهواجس التى صاغت مصير بطل رواية «الطريق» لنجيب محفوظ وهو صابر الرحيمى الذى صنعته لعنة التساؤل عن معنى الحياة.
وفى روايته الجديدة «إخضاع الكلب» الصادرة عن دار الشروق يكمل الفخرانى مسعاه فى إنتاج رواية تبرز الولع بالسؤال عن المصير الإنسانى.
ويحكم دائرة الاجابة فى إطار عالم المصور هارون عبدالرحيم الذى فر إلى مدينة دهب بعد أن عجز عن التواصل مع العالم الخارجى، مكتفيا بما تقدمه الصور التى التقطها من تعويض عن ندوب كثيرة رافقت تجاربه وصنعت تاريخا من الألم
نكتشف أن ما عاشه هارون كان شبحيا على نحو ما يرسخ بداخله لانعدام الرؤية والشك فى المحيطين به وأولهم زوجته وصديقه معتقدا أنهما يعيشان تجربة حب وخيانة وبفضل هذا الهاجس فقد الثقة فى الآخرين وظل يربى وحدته إلى أن نفاجأ به فى مواجهة كلب مهجن وجده مربوطا فى حديقة منزله ووجد نفسه مسئولا عنه حتى تأتى صاحبته لتواصل العناية به وتلخص الفتاة فى الطريقة التى قطعت بها الطريق على وحدة هارون، كل ما أراد الهرب منه، وتفاديه فى حياته الجديدة، فهى تعرف عنه كل شىء وفى أدائها القائم على الغواية جميع المواصفات الغامضة التى تنمى شكوكه وتستعيد بداخله طاقة الشغف والفضول لخوض مغامرة جديدة على الرغم من أنه كان يظن أنه تجاوز ذلك.
كانت تجربة «إخضاع الكلب» وسيلة احتاجها ليبنى جسرا جديدا مع العالم فهو لا «يريد من العالم إلا الحب».
أحكم الفخرانى السيطرة على عالمه المحسوب بدقة صانع عقاقير، فأى خطأ فى التركيبة يبطل العقد مع القارئ ومن ثم لم يرتبك أمام النهاية ونجح فى إخضاع النص حين لم يستجب أبدا لغواية الشخصيات التى تبدو ثانوية سواء حارس البناية أو الفتاة أو الزوجة والأب على الرغم من الاشارات التى أضاء بها حضور هذه الشخصيات فى حياة هارون فظهرت فى الظل، لكنها صنعت تاريخ الشخصية الرئيسية
حافظ الكاتب بمهارة واتقان على ايقاع سردى متمهل يلائم ما كان بين هارون والكلب «ونيس» من مفاوضات ومعارك وتسويات وللاسم دلالة لا تخفى على أحد، كذلك اعتمد على كتابة شعرية تحترم الحكاية ولا تلبى رغبات القارىء الكسول فقد انحازت لجماليات الحذف وتركت للقارئ الذكى مهمة ملء الفراغات فى نص فاتن كتب بمزاج راهب متأمل يفهم جيدا الفارق بين أن نكون وأن نتملك!.