هنيئا لفرنسا هذا الخراب السياسى. عاصمة «الحرية والمساواة والعدالة» تتراجع وتترهَّل. قريبا، تقترب من العالم الثالث. مبادئ الثورة الفرنسية، لم تعد صالحة لدولة رهنت وجودها إلى قيم رائعة، ومارست بكل فصاحة القتل، الاستعمار، الاستبداد والتمييز. كانت فرنسا الثورة أمثولة تحتذى. حرام. أشفقوا عليها. ساعدوها كى لا تتطرف فى عنصريتها وتفوقها اللاأخلاقى. صورة فرنسا الحريات، تهلهلت. من سرّع هذه الانعطافة هو جلالة «الأمير الصغير» إيمانويل ماكرون وحاشيته.
ماضى فرنسا مضى. يستحيل أن تجد إقامة أخلاقية فى المستقبل. إخوة فرنسا بالرضاعة اللاأخلاقية، أُصيبوا بالهزال. وعليه، علينا أن نضع نقطة على نصوص التفاؤل وأن نقرأ تاريخ أوروبا، بطريقة أخرى. إنها موغلة فى الدم والاستبداد والاجتياحات. لقد ذاقت البشرية، قبل ويلات الولايات المتحدة، طعم الدم والمجازر والإبادات. إن الاحتماء بالقيم الإنسانية بات مكشوفا. تتساوى دول الغرب بالفدائح والجرائم المستدامة.. نرجسية سياسية، وتعالٍ بغيض وممارسة لغة التفوق وسلاح القمع والسيطرة .العنف هو إنجيل الغرب، من زمان. وبالمقارنة مع الدول والكيانات العربية، لا نتذكر أن دولة أو شعبا عربيا أقدم على ممارسة الإبادات أو الجرائم. أبدا. أبدا. أبدا. علينا أن لا نتنبأ بمستقبل للمنطقة العربية. كل تفاؤل يتسرَّب من بغيض تصريح أو بيان هو هذيان.
إنه لتفاؤل غبى أن نتوقع بحماسة، أن يُسرع الغرب لإنقاذنا. القيم الإنسانية نُحرت، ونحن فى هذه الساحات، تدربنا على التشاؤم البنّاء. الماضى يُبرهن أننا كنا ضحية. الحاضر، ذروة الأضاحى. المستقبل: «أعوذ بالله» من الأبد الغربى. سرقوا بلادنا. داسوا أخلاقنا. زوّروا ثقافتنا. درّبونا على الدونية. حوّلوا الديموقراطية التى أهدونا إياها إلى موطئ قدم لهم، وإلى رصيف لاستقبال بضائعهم.. نحن كنا ثم صرنا رصيفا محكوما بسلطة الديكتاتورية الرأسمالية. ماذا ارتكب العرب، فى خلال تاريخهم، بحق أوروبا؟ دلونا على موقعة؟ كنا الضحية دائما. العثمانيون، قزّمونا كعرب. الغرب استعملوا السكين عندما ذبحوا البلاد العربية، وألحقوها بنعالهم وسلعهم. هؤلاء ارتكبوا حربين عالميتين، وأبادوا ملايين، نعم مئات الملايين، من الناس الغلابة الذين جذبهم الرأسمال الجشع والاجتياحى فى دول خبيرة بتصنيع السلاح وإبادة الشعوب. حربان عالميتان أبادتا شعوبا. أزمنة استعمار وإلحاق عاشت على النهب والسطو والإهانة والاستبداد. نتذكر ما حصل فى سوريا، والثورة التى اندلعت بقيادة سلطان باشا الأطرش. لقد استعملت فرنسا كل ذخيرتها وطيرانها وقصفها. سجدت الحجارة، ولم تسجد القيادات.. أقدمت فرنسا على إبادات. قصفت أسواق دمشق. قامت بما تقوم به «إسرائيل» فى فلسطين. كانت تعمل لتظلَّ إلى الأبد لكنها طُردت من سوريا. فرنسا، ومثلها أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، لا علاقة لهؤلاء بمبادئ الثورة الفرنسية. همهم كان، المستقبل ممنوع. هذا هو شعار الاستعمار.
• • •
أحيانا، نصاب بأرق وتساؤل: هل نعرف الحاضر الراهن. أنا لا أعرفه، إنما ألعنه من ألفه إلى يائه. دلونا على ما يجعلنا نرفع جباهنا عاليا، من المحيط إلى الخليج. غزة دعتنا إلى أن نُعلى جباهنا. أعدنا سماع ما كان ينشده عبد الناصر: «ارفع رأسك يا أخى».. أى مستقبل لنا؟ المستقبل ممنوع. لقد أجهضت القيم. تم إعلاء شأن السخافة والتفاهة. وبدل التعاون، يُمارس التصادم. العنف مصان وله كل العنان. صمت الشعوب العربية هو وليد العنف المأمور والآمر. لذلك، الوجود الإنسانى العربى مأزوم. أزمة تواجد. أزمة حرية. أزمة كفاية. أزمة قيم، أزمة محاسبة. أزمة الأزمات، أن تكون الأزمات مستدامة. تعلمنا فى صغرنا، كيف نُقلد فرنسا. «غدا سيكون عصر أنوار. عصر حريات. عصر كفاية. عصر إنتاج».. إلى آخره. العالم الثالث راهنا، الذى كان يداس من قوى الاستعمار، يعيش بين الحياة والموت، يصارع يوميا من أجل البقاء. ثمانون بالمائة من الإنسانية تعيش حالة صراع من أجل البقاء. التخلف فى معظم دول العالم الثالث، باستثناء إمارات وممالك النفط، يزدهر وينتشر. تم تفكيك اقتصاديات المجتمعات التقليدية. لبنان نموذج. قالت النخبة السياسية المالية فى الزمن الحريرى: لبنان بلد سياحى ومالى وخدماتى. الزراعة فالصو. الصناعات المحلية فالصو. افتحوا الأسواق. أقفلت المصانع. هجّت اليد العاملة. الفلاحون غاصوا فى بؤسهم.. كان علينا أن نكون فقط، كدولة لبنان، أن نكون خدما على موائد «الأمم». لبنان لا ينتج سلعا للتصدير. لبنان دولة استيراد واستهلاك فقط لا غير. العالم الثالث، أفدح منا. الرأسمالية العالمية، تُوفر للبؤساء الانتقال السريع إلى العالم الآخر.. التخلف ليس وليد شعوبنا أبدا. إنه ناتج عن سرقة مواردنا وتأمين حضورنا فى العالم، كمستهلكين فقط. ماذا يصنع فى لبنان؟ أحذية؟ زيوت؟ عطورات؟ ثياب؟ قطنيات؟ خبز؟ قمح؟.. باختصار، كان لبنان كيانا منتجا، فأقدمت الحكومات الميثاقية، على قتل واغتيال، كل إنتاج لبنانى. لا تنمية أبدا. هناك هبات مشروطة.
سؤال: ماذا ينتج لبنان؟ قولوا لنا بصوت مرتفع. ماذا يشترى لبنان؟ من البابوج للطربوش..
وعليه، التخلف ليس من صنعنا، بل صنع حكومات وقيادات، مربوطة برسم الرأسمال الدولى الاجتياحى. وعليه، خلال أعوام ما بعد الاستقلال. كان التخلف هو الوليد الشرعى لانصياع الدولة لبرامج الدول الصناعية الرأسمالية.
• • •
ادغار موران، وصف الحقبة الرأسمالية بدقة: «إن الأشكال الجديدة للوحشية المترتبة على حضارتنا لم تفشل فى تقليص الأشكال البربرية، بل أيقظتها واقترنت بها». إنها وحشية بعقل يخونها وجشع يشجعها. الرأسمالية طحنت مؤسسات الدولة، أى دولة فى العالم الثالث. شجعت الحكومات الاستبدادية، وعفتها من عقوبة الانتماء إلى الديموقراطية. إنه عصر التوحش الكوكبى. وهذا العصر، ورث قرونا من الغزو والاستبداد والإبادات. ماذا ارتكب نابوليون بونابرت فى مصر؟ ماذا جاء يفعل؟ هذا الدكتاتور السفّاح، يُعتبرُ قديسا فرنسيا. على ماذا أقدمت قيادات بريطانية؟ وعد بلفور. من بيت مال أبيه؟ هذه قذارة أخلاقية، دعم هرتسل وأمّن الطريق لاحتلال فلسطين. علما أن دماء اليهود سُفكت على أيدى الغرب «الحضارى» المتوحش. غربٌ من هذا النوع لا يستحق إلّا اللعنات وجعل الإدانات قُدّاسا يوميا. وعدونا بالتقدم. يا حيف. تقدّموا على حقوقنا وهاماتنا وأمرونا أن نطيع. من أطاع استطاع أن ينتقل من الحالة الإنسانية إلى البربرية. إن حضارتنا العربية مصانة بالأخلاق، والحضارة الغربية مطعونة. إنّه عصر التوحش البربرى. عصرٌ ما يزال يسير إلى الأمام البربرى. نحن أمام قرن عبودى يتيح الإبادات المعممة. الحجة الراهنة أن الكرة الأرضية لم تعد تحتمل كثافة سكانية.. يا عالم. يا هو.. تحضّروا للإبادات، مطلوب إلغاء الإنسان.
قريبا جدا، تعلن الحضارة الوحشية عن قدومها. فاستعدوا لمراسم الوداع. «إن لم نغير هذا العالم، فالفناء آخرتنا ومصيرنا». لقد اتضح الأمر: الحضارة الراهنة حشرة على سطح العالم.
نصرى الصايغ
موقع على الطريق
النص الأصلى: https://bit.ly/4cHbqBq