مأزق السياسة النقدية - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 سبتمبر 2024 10:12 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مأزق السياسة النقدية

نشر فى : الإثنين 29 يوليه 2024 - 7:40 م | آخر تحديث : الإثنين 29 يوليه 2024 - 7:40 م

عندما اتخذ البنك المركزى المصرى قراره بتثبيت أسعار الفائدة للمرة الثانية على التوالى عند 27,25%، على الرغم من التراجع النسبى فى معدلات التضخم السنوى لشهر يونيو 2024 مقارنة بشهر المقارنة فى يونيو 2023 (27,5% التضخم العام و26,6% التضخم الأساسى)، فقد قرأت ذلك باعتباره تثبيتًا لسياسة التشديد النقدى التى يحاول من خلالها المركزى السيطرة على معدلات التضخم المنفلتة والتى ما زالت تحلّق بعيدًا عن التضخم المستهدف (7%+ أو -2 نقطة مئوية).
قرار التثبيت جاء وفق التوقعات، مشفوعًا بإشارات ملتبسة بعضها يدعو إلى البدء فى التيسير النقدى (خفض أسعار الفائدة) والبعض الآخر يعزز من استمرار التشديد. أما عن معززات التيسير فهى كما سبقت الإشارة مرتبطة بتراجع فى معدلات التضخم السنوى، والاتجاه شبه المحسوم للفيدرالى الأمريكى ببدء موجة من التيسير النقدى بحلول سبتمبر المقبل، فى ضوء بيانات مشجعة لكل من التضخم والنمو والتوظيف. بل المؤشرات السياسية التى تصب فى اتجاه فوز المرشح الجمهورى ترامب فى الانتخابات الرئاسية المقبلة، وفى ذلك احتمال كبير للتدخّل فى السياسة النقدية، أو فى القليل التأثير عليها للمضى سريعًا فى طريق خفض أسعار الفائدة لصالح أسواق الأوراق المالية والنشاط الاستثمارى بصفة عامة.
من ناحية أخرى كان الاتجاه إلى مزيد من التشديد النقدى فى مصر محفزًا بارتفاع معدلات التضخم الشهرى فى يونيو 2024 بنسبة 1,8% بعد أن هدأت وتيرة التضخم الشهرى منذ قرارات 6 مارس، بما انعكس على معدلات تضخم شهر مايو بنسبة (سالب) 0,8%. هذه القفزة فى معدلات التضخم الشهرى تعكس امتصاص الأسواق لحصيلة صفقة رأس الحكمة بشكل متسارع، ومن ثم ضرورة وجود عناصر جديدة لمحاصرة الموجة التضخمية الناتجة عن تخفيض قيمة العملة الوطنية بنحو 38% نتيجة القرارات المشار إليها. أيضًا من الواضح أن أى تحسّن فى معدلات التضخم السنوى كان مبررًا بأثر الأساس؛ بما يعنى أن شهر المقارنة من العام الماضى كان يشهد معدلات تضخم مرتفعة للغاية اقتربت من 40% فى أشهر الصيف، وتجاوزت 41% بالنسبة للتضخم الأساسى فى أغسطس 2023.
كذلك كانت هناك مؤشرات على تحريك جديد لأسعار المحروقات، قبل انعقاد المجلس التنفيذى لصندوق النقد الدولى، والذى كان مقررًا له الاجتماع فى 10 يوليو لمناقشة المراجعة الثالثة لاتفاق القرض الممنوح لمصر، ومن ثم صرف شريحة جديدة تصل إلى 820 مليون دولار تقريبًا. تأجيل الاجتماع إلى 29 يوليو رجّح إمهال الجانب المصرى فرصة لتحريك أسعار المحروقات، والذى كان من أهم البنود العالقة فى أعمال المراجعة الثالثة، كما هو واضح فى التقرير المنشور آنفًا للصندوق.
إذن كان ترجيحى لاتخاذ المركزى قراره بتثبيت أسعار الفائدة، يصب فى اتجاه التعامل بحرص مع كل الإشارات الملتبسة السابقة، لكنه أيضًا يدعم الاستمرار فى سياسة التشديد، لأن مستويات الفائدة حاليًا مرتفعة بالفعل، بما يؤثر سلبًا على الاستثمار وعلى تكلفة الدين العام الذى هو أكبر أعباء الحكومة الحالية. وإذ جاء قرار المركزى موافقًا لذلك الترجيح، فقد ألقى بعبء معتبر على كاهل السياسة المالية للعمل على التكامل مع السياسة النقدية لمحاصرة العدو الأول للاقتصاد وهو التضخم، عبر سياسة تقشفية خاصة فى الإنفاق الاستثمارى. وكنت أرى أن تمسّك الحكومة المصرية بتأخير قرار تحريك أسعار المحروقات لعدم صب الزيت فوق نيران التضخم المشتعلة، هو السبب فى رفع اسم مصر من أجندة اجتماعات المجلس التنفيذى للصندوق فى العاشر من يوليو، وأن التأجيل حتى يوم 29 يوليو يمنح المفاوض المصرى فرصة للتفاوض حول الأثر السلبى المباشر لقرار تحريك أسعار المحروقات، خاصة أن التحريك يأتى تحت مسمّى الرفع التدريجى للدعم، بينما الدعم ذاته فى حاجة إلى إعادة تعريف، حتى يمكن تمييزه عن مسببات رفع تكلفة الوقود، والتى تتضمن الهدر والفاقد وسوء إدارة العقود وغياب تخطيط الطاقة، وهى أمور يجب أن تمنح الحكومة بتشكيلها الجديد مهلة لتداركها.
• • •
لكن الصندوق رفع اسم مصر مجددًا من الأجندة فى 19 يوليو 2024 (تاريخ أحدث تعديل للأجندة عن الرفع) ولم يعدها إلا فى نحو الرابعة عصرًا (بتوقيت القاهرة) يوم 21 يوليو (التحديث الأخير لم يذكر تاريخه على الموقع!) على أن إعادة مصر إلى الأجندة لم تأتِ تحت عنوان مناقشة تقرير الخبراء للمراجعة الثالثة للقرض وحسب، بل جاء فيها تفاصيل خاصة بطلبات مصرية لتأجيل بعض الالتزامات، وإعادة مناقشة بعض مؤشرات الأداء وشئ متعلّق بالسياسة النقدية! هذا وحده كان كفيلًا بالضغط على الجانب المصرى لتحريك أسعار المحروقات قبل أيام من الاجتماع يوم 29 يوليو، حتى لا ينتهى على رفض أو تأجيل لمنح مصر الشريحة الثالثة المستحقة عن أعمال المراجعة، علمًا بأن مصر سددت للصندوق خلال النصف الأول من العام الحالى ما يزيد على 3 مليارات دولار من الديون القائمة المستحقة للصندوق.
الدولة التى ستسدد لصندوق النقد الدولى ما قيمته 10.3 مليار دولار خلال عامى 2024 و2025، وذلك بأسعار فائدة مجحفة، أعلنت مديرة الصندوق ذاتها ضرورة إعادة دراستها للدول الأكثر استدانة مثل مصر وأوكرانيا والأرجنتين، ويجب ألا تمارس عليها ضغوط لصرف شريحة لا تزيد على 820 مليون دولار، فى سياق محلى وإقليمى ضاغط. خاصة وأن الامتناع عن الصرف (من الطرفين) يهدد الصندوق نفسه باحتمال تعثّر ثانى أكبر مقترضيه.
• • •
بعيدا عما تم إقراره فى اجتماع يوم ٢٩ يوليو (غير معلوم عند كتابة هذه السطور) وما إذا تضمّن صرفا للشريحة الثالثة من عدمه، أرى أن الصندوق قد تعامل بشىء من الاستخفاف مع الاقتصاد المصرى، من خلال ربطه صرف شرائح القرض بالالتزام الحرفى بمعايير الأداء الفرعية! على الرغم من التوافق بشكل عام على المعايير العامة والتزام مصر بها. كما أن اتجاه الصندوق لحذف ثم إعادة إدراج مصر على أجندة اجتماعات مجلسه التنفيذى، أرسل إشارات سلبية للمستثمرين والأطراف أصحاب المصلحة، بل جعل أسعار المحروقات (على الرغم من حساسية التعامل معها) مادة لمراهنات الأسواق، وما عساه يخلق نمطًا استهلاكيًا غير صحى (مثل التزاحم على محطات الوقود). كذلك لا يخفى على أحد أن تأخير صرف دفعات القرض يعرّض البرنامج الإصلاحى كله للخطر! ويؤثر سلبًا على الملفات والالتزامات الأخرى التى نجحت مصر فى الالتزام بها والتوافق معها.
كل ما سبق يؤكد أهمية ما طالبت به كثيرًا من ضرورة تشكيل لجنة وطنية غير حكومية لمتابعة وتقييم برنامج الإصلاح الاقتصادى الموقّع مع الصندوق، وهو اتجاه سبق أن سلكته «سيريلانكا»، وكان موفقًا كما أكد لى بعض مسئولى الصندوق أنفسهم. هذه اللجنة تعفى أعضاء الحكومة من كثير من الحرج، وتعكس نبض الشارع ورأى الخبراء بحياد وتجرّد.
الأثر المباشر للموجة التضخمية الناتجة (حتمًا) عن رفع أسعار المحروقات، لن يكون فقط على مستويات المعيشة أو معدلات الفقر أو استمرار التشديد النقدى والتقشف المالى، وأثرهما السلبى على معدلات النمو والاستثمار.. بل هناك أزمة تتعلق بتدفقات الأموال الساخنة والتى بلغت، حتى تاريخه، ما يزيد على ٣٥ مليار دولار. أصحاب تلك التدفقات لن يترددوا فى الانسحاب (كما فعلوا مرارا) إذا انخفضت الفائدة «الحقيقية» على أدوات الدين الحكومية المصرية. الفائدة الحقيقية هى الفائدة الاسمية مطروح منها التضخم. فإذا ثبتت أسعار الفائدة الاسمية، فإن ارتفاع التضخم يأكل الفائدة الحقيقية، ويغرى بالمستثمر الأجنبى بالخروج بأمواله إلى أقرب دولة تمنح فائدة أكبر.
انخفاض الفائدة الحقيقية على أثر ارتفاع التضخم يؤثر على سعر الصرف الحقيقى الفعّال، ويرجّح احتمال تراجع الجنيه مقابل الدولار، فتتراجع قيمة الأموال المحوّلة للدولار عند استحقاق الأذون.. كذلك المستثمر «المثالى» الذى يعتزم إعادة استثمار عائدات أذون الخزانة بالجنيه داخل مصر، لن يغريه تراجع الجنيه عند الاستحقاق. وإذا كان السبيل لعدم تحقق كل تلك التبعات السلبية هو تثبيت سعر الصرف، فإننا سنكون بصدد مخالفة أفدح لاتفاق الصندوق، ومكافأة مزدوجة للأموال الساخنة على حساب استنزاف احتياطى النقد الأجنبى لمساندة قيمة الجنيه. صحيح أننا لا نفضل الأموال الساخنة ولا نعتمد عليها، لكننا لا نملك رفاهية التخلى عنها فى الأجل القصير، خاصة مع ارتفاع الالتزامات الدولية إلى نحو ٣٧ مليار دولار خلال عام فقط.

كاتب ومحلل اقتصادى

 

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات