مازالت ردود الفعل على الانتخابات البرلمانية القادمة تتراوح فى مجملها بين ثنائية الندب والعويل حول «تفريغ الثورة من مضمومنها» من جهة، والفرح ببدء المرحلة الانتقالية نحو الديمقراطية من جهة أخرى. فى الحالة الأولى مبعث التشاؤم إما الاعتراض على القوانين المنظمة للانتخابات، وإما الخوف من سيطرة الأموال على العملية الانتخابية، أو عدم جاهزية بعض الأحزاب أو ما يسمى «شباب الثورة». أما مدعاة الفرح عند البعض فترجع ليس فقط فى أنها من الممكن أن تكون أول انتخابات نزيهة منذ عقود، ولكن أيضا فى أنها تنتقل بالثورة من مرحلة «المليونيات» إلى مرحلة البرلمان والمؤسسات، وتنهى بذلك شرعية بعض الحركات السياسية كما تغلق الباب أمام العمل الاحتجاجى. وفى الحالتين يبقى فهم دور الانتخابات كعملية سياسية قاصرا.
فالانتخابات بالتعريف هى فقط جزء من عملية صنع السياسات حتى فى أعتى الديموقراطيات رسوخا. فوجود برلمان أو حتى رئيس منتخب لا ينفى ضرورة وجود أشكال أخرى من العمل السياسى سواء على مستوى الشارع أو أماكن العمل أو جماعات الضغط من المجتمع المدنى. فأمريكا تشهد الآن حركة احتلال وول ستريت للضغط على المؤسسات المنتخبة، وجماعات حماية البيئة هى التى تعمل على إقرار سياسات بيئية جيدة وهى خارج البرلمان، والأمثلة كثيرة فى حالة الديموقراطيات المستقرة، فما بالنا فى حالة ثورية؟. إذا، الانتخابات ليست نهاية المطاف ولكنها مسار من ضمن مسارات عدة تحدد شكل السياسة.
والانتخابات أيا ما كانت القوانين المنظمة لها، هى عملية تعانى أوجه قصور متعددة. فالدارسون للنظم الانتخابية ــ وهو تخصص فى حد ذاته ــ يعرفون أن لكل نظام عيوبه، كما يعرفون أن مشكلة سطوة المال والتمويل فى العملية الانتخابية هى مشكلة عضوية حتى وإن لم تتخذ شكل الرشاوى الانتخابية المباشرة. وعلى الرغم من أن النظام الانتخابى فى مصر كان من الممكن أن يكون أفضل، فإن هذه المشكلات الجوهرية كانت ستظل قائمة إلى حد ما. ولهذا توجد دائما ضرورة لعدم اختزال الفعل السياسى وقصره على عملية الانتخابات ولكن أن تتوازى هذة العملية مع الأشكال الأخرى التى ذكرتها حتى تحدث بعض التوازن فى السياسات العامة وتجعلها أكثر تعبيرا عن المجتمع ككل وأقل انحيازا للفئات الأقوى.
...
فإذا ما نظرنا للانتخابات المقبلة بهذا الشكل ــ على أنها جزء من عملية سياسية أكبر وجزء نعرف حدوده وإمكاناته ــ فإن السؤال يصبح ماذا يمكن أن تقدم لنا هذة الانتخابات غير وجود سلطة تشريعية والبدء فى عملية وضع الدستور؟ الإجابة: الكثير.
أولا، هى فرصة ذهبية لفرز الأحزاب وتفريغ قيادات سياسية جديدة. فمثلا، الكل الآن يتشدق بأهمية «العدالة الاجتماعية» ولكن هذا التعبير المجانى الآن سوف يوضع محل اختبار حقيقى حينما تناقش الأحزاب وأعضاء البرلمان ميزانية الدولة أو إقرار سياسات ضريبية جديدة، حينها يصبح التمييز ممكنا بين من يتشدق بهذا التعبير ومن ينحاز لتطبيقه ولأى درجة.
ثانيا، سوف تتيح الانتخابات فرصة استعادة المواطنين للسياسة والشأن العام.
فحالة اختزال السياسة فى نقاشات النخبة داخل برامج التوك شو والجدال العقيم حول الدستور أو الانتخابات أولا نفرت وأبعدت الكثير عن الشأن العام بعد أن كانوا استعادوا هذا الاهتمام مع الثورة. هذه الحالة من الممكن أن تُكسَر بسبب إجبار القوى السياسة على التنافس على أصوات الناخبين، وبالتالى فى تركيز سجالاتهم حول ما يهم الناخب ــ المواطن وليس ما يهم برامج التلفزيون. وسوف يستتبع ذلك خروج النقاش العام من ضيق دائرة الإعلام إلى آفاق محافظات مصر. وبالمثل فإن الانتخابات وما يسبقها من حراك ودعاية هى الفرصة المثلى للقوى السياسية للتعرف على نبض الشارع ومشكلات الجماهير وبالتالى تطوير رؤاها وبرامجها السياسية بشكل واقعى.
ثالثا، سوف تتيح العملية الانتخابية للحركات الجماهيرية منصة أخرى لبناء التحالفات السياسية. فالحركة العمالية أو سكان العشوائيات تصبح أمامهم فرصة للتعرف على القوى السياسية الأقرب لهم وخلق حلفاء جدد يترجمون هذه المطالب إلى برامج سياسية.
...
إذا، الانتخابات ليست هى منتهى الثورة ولا سقف التغيير، ولكنها أيضا ليست معركة هامشية لا نأبه بها على اعتبار أن نتائجها محسومة أو أن الظروف عير مواتية. ففى كل الأحوال هى معركة يجب أن تخاض بجانب معارك أخرى كثيرة من المهم أن تتكامل حتى يحدث تغيير جذرى فى مصر.