نعود إلى البدايات: حين ينهار التنظيم الديمقراطى للدولة وللمجتمع أو تحدث ارتدادات كبرى عن مسار التحول الديمقراطى، وذلك هو حال مصر اليوم، تتبلور نظم حكم مسخ تجمع بين سمات صريحة للشمولية وللسلطوية وبين بقايا آليات وإجراءات ديمقراطية تفرغ من الجوهر والمضمون.
سمات كالانتقاص من حريات المواطنات والمواطنين، وانتهاكات لحقوق الإنسان، وغياب للمساءلة وللمحاسبة بشأن سياسات وممارسات مؤسسات الدولة وأجهزتها، وهيمنة للمكون العسكرى ــ الأمنى يقابلها تعديلات دستورية وجدول زمنى للانتخابات البرلمانية والرئاسية وسن لقوانين ذات صلة بالحياة السياسية تروج لها نخب الحكم بحسبانها آليات وإجراءات ديمقراطية.
والحقيقة المريرة هى أن التعديلات الدستورية ترسى دعائم بنيان سياسى غير ديمقراطى يشرعن لهيمنة المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية على الدولة والمجتمع والسياسة، والحقيقة المريرة هى أن الهيمنة هذه ستعصف بقواعد تكافؤ الفرص فى الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة وستقضى على ضمانات النزاهة والحيادية، والحقيقة المريرة هى أن القوانين التى تسن تنتقص من حقوق وحريات المواطن وتقيد إلى حد بعيد قدرته على المشاركة المستقلة والفعالة فى الشأن العام.
وكالنظم الشمولية والسلطوية، تتورط نظم الحكم المسخ فى سياسات وممارسات هدفها الوحيد هو السيطرة على المواطن وإلغاء وجوده كفرد وتحويله (كما تناولت بالأمس) إما إلى خائف باستمرار أو مؤيد باستمرار أو باحث عن الانتقام من «أعداء الوطن» أو مشارك فى تشويه وتزييف الوعى.
وعلى الرغم من أن فاعلية وكفاءة النظم المسخ فى السيطرة على المواطن عادة ما تقل عن الشموليات والسلطويات الراسخة ــ أى الجالسة على مقاعد الحكم منذ فترات زمنية ليست بالقصيرة ــ فإن بعض النظم المسخ تقترب من هدف إحكام السيطرة على المواطن حين يتوافر لها تأييد النخب الاقتصادية والمالية والسياسية وحين تتوافر لها آلة إعلامية تمرر تشويه وتزييف وعى الناس وحين تؤشر خطوط الثقافة العامة على قبول الانتقاص من حقوق وحريات المعارضين إما كتعبير مريض عن فولكلور التشفى الشعبى أو كرد فعل على سابق تسلط معارضى اليوم حين مارسوا الحكم.
والقول الفصل هو أن مصر يتوافر بها اليوم لنظام الحكم تأييد النخب الاقتصادية والمالية والسياسية (الأحزاب صاحبة اللافتات الليبرالية واليسارية)، وتنشط بها آلة إعلامية تمرر أجزاء عديدة بها تشويه وتزييف الوعى وتستبعد الأصوات المتمسكة بالتغريد بعيدا عن تبرير انتهاكات الحريات والحقوق ــ فى هذا السياق وفى حدود المتاح لى من معلومات، لا توجد قرارات صريحة بمنعى أو غيرى ممن تبدو وضعية المعارضين قدرهم الأزلى من الظهور الإعلامى، بل تدرك الآلة الإعلامية ككل أن مواقفنا وأفكارنا ليست محل ترحيب لا من نظام الحكم ولا من قطاعات شعبية واسعة ومن ثم نستبعد كأصوات ونتحول إلى مطاريد الديمقراطية الذين حتما ستنحسر مساحات فعلهم وتأثيرهم ما لم يقاوموا.
والقول الفصل هو أن مصر يتوافر بها اليوم لنظام الحكم فولكلور تشفى شعبى يقبل انتهاكات حقوق الإنسان ويرحب بعودة المكون العسكرى ــ الأمنى للهيمنة على الدولة والمجتمع وللسيطرة على المواطن وإلغاء وجوده كفرد، وجلى جدا الارتباط العضوى لهذا الفولكلور باللاعقلانية المستمرة للإخوان ولحلفائهم فى اليمين الدينى وبالماضى القريب لتسلطهم ولإقصائهم لمعارضيهم وللمختلفين معهم وهى الممارسات الخاطئة التى لم يشرع لا الإخوان ولا غيرهم فى الاعتذار عنها وبلورة نقد ذاتى بشأنها.
غدا هامش جديد للديمقراطية فى مصر