ممنونة ليومى العادى - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 2:09 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ممنونة ليومى العادى

نشر فى : الأربعاء 29 نوفمبر 2017 - 8:10 م | آخر تحديث : الأربعاء 29 نوفمبر 2017 - 8:10 م

يحتفل سكان شمال القارة الأمريكية بعيد الشكر فى رابع خميس من شهر نوفمبر من كل عام، وهو احتفال يعد الأهم فى الولايات المتحدة الأمريكية، إذ إنه العيد الذى يجمع عليه كل الأمريكان بغض النظر عن خلفياتهم الدينية أو العرقية. وتتضارب الحكايات حول أصول هذا العيد، إذ يقال إن المهاجرين الأوائل، أى الأوروبيين الذين وصلوا إلى القارة الأمريكية فى القرن السابع عشر، كانوا قد اعتمدوا يوما فى السنة ليشكروا فيه ربهم على المحصود. ويقول آخرون إن عيد الشكر جاء على أعتاب مذابح قام بها المهاجرون الأوروبيون الأوائل بحق سكان أمريكا الأصليين.
***
أنا عن نفسى، أحب عيد الشكر جدا، ليس فقط لطقوسه التى تعلمت احترامها فى السنوات التى قضيتها مع عائلتى فى نيويورك، إنما لأن عيد الشكر لامس فى داخلى شعورا عميقا بالامتنان لأمور قد أتجاهل وجودها إذ إنها كثيرا ما تدخل فى حكم الـ«عادى»، كأن يمر يوم دون أى حدث استثنائى، فأفتح عينى فى صباح يوم عطلة على صوت أطفالى وصوت الماء، ها هم يرشون وجوههم بالماء فتتحول لحظة عادية إلى لعبة تعلو على إثرها ضحكاتهم فى الممر المؤدى إلى غرف النوم. أهب لأنهرهم فهم يحدثون ضجيجا قد صحانى وسوف يصحى الصغيرة، لكنى سرعان ما أكتم ضحكتى من منظر بريق عيونهم ووجوههم المبللة. تستيقظ الصغيرة من الضجيج وتنضم للعبة دون أن تفهمها. تركض بين الولدين وتضحك لأنها تعرف أن ضحكتها سوف تجعلها جزءا من الحدث.
***
رائحة القهوة: هل من الممكن أن ينجلى الليل حقا دون أن تتغلغل هذه الرائحة إلى أنفى قبل أن تدخل إلى رأسى عبر فمى؟ لحظة صفاء لا يعكرها حتى صوت صراخ الطفلة، فأنا أعرف أنها ثوانٍ وسوف تسكت، بينما أكون أنا قد وصلت إلى نصف الفنجان.
***
أشعة الشمس فى الخريف: هى كلمات حب تداعب الشجرة التى أراها من خلف الشباك. ككلمات عاشق اعتاد اللعب بالعواطف، توحى أشعة الشمس بالدفء لكن الصباح الخريفى فى الحقيقة بارد. أنا لا أصدق الكلمات التى تهمس بها الشمس إلى من خلال الشجرة، وأرمى شالا صوفيا حول كتفى.
***
الواجبات المدرسية: أسترجع مع الأولاد قواعد اللغة وأصول الكلمات فأشرح لهم تصريف الفعل وفرق الفاعل عن المفعول به. أعود طفلة فأسمع صوت أبى، وهو الضليع فى الإعراب، يشرح لى متى ينصب الفعل ومتى يجزم. أسحب كتابا كنت قد تركته الليلة الماضية وأقرأ عدة صفحات. لحظات عادية أنا شديدة الامتنان لها، لحظات أصر على تذكر تفاصيلها حتى أزورها فى شيخوختى. الأولاد ما زالوا فى لباس النوم، اليوم خريفى شمسه ساطعة خلف الزجاج، وأنا أمسك فنجان القهوة الثانى بيد وكتابا باليد الأخرى.
***
المطبخ: يوم العطلة هو بمثابة يوم التجارب المخبرية بالنسبة لى، فها أنا أدعك الدقيق بالماء وأضيف إليه الخميرة وزيت الزيتون. لنر إن كانت فطيرتى لهذا الأسبوع سوف تنفش أم أنها سوف تخذلنى. أخلط مكونات كعكة أريد أن أخبزها اليوم أيضا، فأنا بحاجة إلى رائحة السكر وحلاوة الكعكة وامتزاجهما برائحة وطعم القهوة وصوت الأولاد. أحاول أن أخلق موقفا يوقظ فىّ كل الحواس بغية تسجيله فى ذاكرتى. أعجن الدقيق وأشم رائحة زيت البرتقال الذى أضيفه إلى العجينة، أسمع صوت زوجى وهو يحكى قصة للأولاد وأشرب فنجانا ثالثا من القهوة. أنظر من حولى إلى يومى العادى، ها هو يسير تماما كما أريده أن يسير كل أسبوع.
***
غرفة الجلوس: شمس ما بعد الظهر تضربها بقوة، فأغير من جلستى حتى أستطيع أن أرى شاشة التلفزيون. ما زلت أتنقل فى بيتى يوم العطلة وبيدى فنجان من القهوة، أضعه هنا أو هناك ثم أعود وألتقطه فأجده فارغا. هل شربت القهوة كلها أم شرب زوجى ما بقى فى الفنجان ظنا منه أننى لا أريده؟ «مين شرب القهوة تبعى؟» وطبعا لا أتلقى ردا. كثيرا ما أتساءل كيف يمضى من لا يحبون القهوة يوم العطلة الخريفى دون فنجان قهوة ودون هذه الرائحة الساحرة؟
***
فى المساء، يعلو صوت ضجيج الأطفال من جديد فى الحمام. يخرجون بوجوههم المبللة مرة أخرى ولباس نومهم. نبدأ بالنقاش اليومى الذى هو أشبه بمفاوضات سلام مركبة حول إمكانية أن يسهروا قليلا يوم العطلة. هى نهاية يوم عادى أتخيل أن كثيرا من العائلات تعيشه بالتفاصيل ذاتها لكننى ممنونة لعاديته. إذ من جهة يحتم على عملى واهتمامى بالشأن العام أن أطلع عن قرب على عدم عادية تفاصيل كهذه فى حياة الملايين من أبناء بلدى، سوريا، وأبناء البلد الذى احتضننى، مصر. كثيرون لا يملكون ترف يوم عادى كهذا، فترانى أتمسك بتفاصيل يومية، وأحولها إلى أيقونات سوف أعلقها على حيطان ذاكرتى حتى أعود وأتصفحها فيما بعد.
***
أنا أيضا أحب عيد الشكر، وأشعر بالامتنان فى كل لحظة تمر بشكل عادى، لا استثنائى، تلتقطها حواسى، وتخزنها ضمن آلاف اللحظات الأخرى التى سوف أسترجعها بعد سنوات طويلة، فأضع فنجان القهوة جانبا ريثما تمشط ابنتى لى شعرى، وقتها سوف تكون شابة وقد أكون أنا جالسة فى هذا الكرسى الأزرق، ذات يوم خريفى تداعبنى فيه الشمس من وراء الشباك فأصدق كلماتها.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات