نشر موقع هسبريس مقالا للكاتب وائل بورشاشن، تناول فيه ما دار فى ندوة نظمها منتدى أصيلة الثقافى فى المغرب. طرح فى الندوة سؤال «العروبة إلى أين؟». دافع كل من تحدث فى هذه المسألة عن تصور غير قومى للعروبة، مع حضور إجماع على الحاجة حاليا إلى ترميم الصف الداخلى لدول المنطقة... نعرض منه ما يلى:«العروبة إلى أين؟» فى ظل التحولات الإقليمية والدولية الجديدة وواقع العالم العربى؛ سؤال طرحته ثالثة ندوات جامعة المعتمد بن عباد فى المغرب التى ينظمها منتدى أصيلة الثقافى.
دافع كل من تحدث فى الندوة عن تصور غير قومى للعروبة، أى غير مستند إلى العرق والتعصب والاستعلاء، مبرزين تحديات المستقبل، والحاجة حاليا إلى ترميم الصف الداخلى لدول المنطقة أولا، بعدما صارت كثير منها فاشلة أو مارقة، وفى ظل ما يهدد العديد منها من مخاطر التقسيم، والنزاعات الإثنية والطائفية، فضلا عن الصراعات البينية.
«عروبة» لا «قومية عربية»
سجل الحسين شعبان، أكاديمى وكاتب عراقى، أن «العروبة تختلف عن فكرة القومية»، فالعروبة، «هوية جامعة ذات بعد حضارى وثقافى، وهى رابط وجدانى يربط الأمة من المحيط إلى الخليج»، بينما «القومية فعل سياسى بشحنة أيديولوجية».
ودافع شعبان عن عروبة لا تكون قومية؛ فلا تكون بالتالى «عروبة سياسية مفرقة واستعلائية ومتعصبة»، وزاد طارحا مفهوم «العروبة الثقافية الجامعة الإنسانية»، التى هى «واقع وليست فكرة أيديولوجية»، وهى المتصلة بـ«المعرفة والشعر والتراث»، علما بأنه «لا يمكن اختزال العروبة فى النسب والقومية».
وعلى هذه «العروبة الحضارية» التى «ضد التفتت» ــ يتابع شعبان ــ تأسس مشروع النهضة فى القرن التاسع عشر، القائم على الحرية والتنمية المستدامة، مسجلا أن هذه العروبة «ليست مسألة ساكنة ونهائية، بل هى متجددة باستمرار»، مؤكدا فى الآن ذاته أن «اختلاف الهويات واقعى لا مفتعل، وللشعوب والجماعات والأشخاص الحق فى الهوية».
ويهدد العروبة، حسب المتحدث، تصدع الدولة العربية، وتراجع القضية الفلسطينية الجامعة للعروبة، وانفجار الهويات الفرعية، والرياح الطائفية والإثنية.
وتشبث الكاتب بحاجة المنطقة إلى «التنوع وقبول الآخر والإقرار بالحق فى الاختلاف»، قبل أن ينهى مداخلته قائلا: «لا بد من الكشف عن مصادر القوة الروحية لفكرة العروبة تاريخيا، كما سبق أن دعا إلى ذلك المؤرخ قسطنطين زريق، علما بأن هذا مشروع لم ينجز، ويحتاج إلى وعى جديد».
أولوية «المصالحة الوطنية»
من جهته، قال محمد بن عيسى، الأمين العام لمنتدى مؤسسة أصيلة، إن محاولات التحديث التى ظهرت فى العالم العربى منذ القرن 19 قد اقترنت وامتزجت بالعروبة فى ثلاث صياغات متميزة؛ أولاها «صيغة حضارية» تمثلت فى جهود المفكرين والأدباء الذين آمنوا بإمكان النهضة العربية، باستلهام قيم الإصلاح والتنوير الدينى واستنباتها فى العالم العربى، وثانيها فى الصيغة الإيديولوجية المتمثلة فى التنظيمات السياسية والحركية التى تبنت القومية العربية، وعمل فيها دعاة الوحدة العربية انطلاقا مما اعتبروه المقومات المشتركة التى يمكن أن يتم بها تشييد الدولة العربية المكرسة لهوية الأمة، أما الجانب الثالث فهو النظام الإقليمى الاندماجى الذى تبنته جامعة الدول العربية».
وتوقف بن عيسى، الدبلوماسى الذى سبق أن تقلد منصبَى وزير الثقافة ووزير الخارجية، عند التحولات الإقليمية والدولية التى تعيش المنطقة تحولاتها، والتى أثرت سلبا على فكرة العروبة.
هذا الوضع، بحسب المتحدث، «شجع القوى الإقليمية غير العربية على التدخل والتأثير فى الساحة العربية المضطربة»، وهو ما فجر بـ«صيغة أو أخرى النزعات الإثنية والطائفية، بما فى ذلك فى الدول التى كانت مهد العروبة والقومية العربية».
ومع تشبثه بالأمل، سجل بن عيسى أن «النقاش الجاد يبدأ بانتقاد الذات»، وأن «المصالحة» داخل الدول نفسها «مسألة مهمة جدا».
من جهته، تساءل مصطفى نعمان، سفير يمنى سابق لدى إسبانيا ومحلل سياسى، عن الوجود العملى لأثر فكرة العروبة، قائلا: «فكرة العروبة هل هى اجتماعية أم سياسية، أم فقط لغة تجمع مساحة جغرافية يقطنها مجموعة من الناس؟»، قبل أن يجيب جازما: «لا أجد فى فكرة العروبة أكثر من موضوع نلوكه منذ عشرات السنين، لكنه لا ينعكس على المنظومة الاجتماعية والسكانية المتحدثة بهذه اللغة».
وقدم المتحدث مثالا بـ«الجامعة العربية التى لم تستطع التدخل وحل مشكلة عربية واحدة»، بل «نشأ الاتحاد المغاربى لضعفها فى القيام بالمهمة التى أنشئت من أجلها». وتابع قائلا: «هى فكرة جميلة ومثالية، لكن لا نستطيع إسقاطها على أرض الواقع بسبب غلبة الذاتى على الموضوعى، وما يحدث من نزاعات فى العالم العربى كثير منها ذاتى، ومن الغريب والعجيب أن تتحول إلى أزمات».
واسترسل السفير اليمنى السابق: «ما دور الجامعة العربية فى الأزمة الخليجية الأخيرة؟ لا مقترح، ولا استطاعة للوساطة ولا الانخراط، لأن الدول فى مجلس التعاون لم تسمح لها، لأنها جعلت الشأن الخليجى خارج الجامعة العربية، وهذه الأخيرة لا تستطيع أن تعمل شيئا فى واقع الأمر، ولماذا لا نستطيع إيجاد بدائل لها؟ لِعدم وجود إرادة، لا لإيجاد بديل ولا لتفعيل الموجود».
وأجمل نعمان تدخله قائلا: «كثير من الدول العربية تحتاج إلى مصالحة وطنية داخلية، ليشعر المواطنون بأنهم أصحاب حق لهم مسئوليات وعليهم واجبات، وبعد هذا الاستقلال الوطنى، يمكن أن نتحدث بعد ذلك عن العروبة».
من جهتها تحدثت إلهام كلاب، رئيسة جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان بلبنان، عن إسهام النساء اللبنانيات فى الفكر النهضوى، من خلال الإعلام، معرجة على «الطور الاستبدادى» الذى دخلته لبنان فى متم القرن التاسع عشر تحت الحكم العثمانى، وهو ما أدى إلى ظهور هذه الإسهامات اللبنانية أولا فى مصر، حيث أسهمت النساء فى «النهضة» من خلال الصحافة، والصالونات الثقافية، والمسرح… وعددت نماذج أبرزها روزاليوسف التى تستمر مجلتها فى الصدور إلى اليوم.
وتفاعلا مع سؤال الندوة «العروبة إلى أين؟» تساءلت الباحثة «لبنان إلى أين؟»، بعدما كان «مهدا للعروبة»، ساهم فى «صيانة اللغة والثقافة»، إلا أن «لبنان الرائد يكاد يفقد ريادته، وتلك العصبيات التى قضينا دهرا نواجهها، تعود بقوة بسبب الفساد وسوء الحوكمة…».
وفى النهاية، تمنت الباحثة أن تتطور فى المنطقة «فكرة المواطنة، بدل الطائفة والعائلة».
«يجب ألا نفقد الأمل»
بالنسبة إلى كايد هاشم، نائب الأمين العام للشئون الثقافية فى منتدى الفكر العربى، فإن «إدامة التَفَاكُر فى مآلات العالم العربى، دليل عافية»، من «الفكر المستنير» و«التطلع الإنسانى المشروع» لـ«الخروج من حلقة معاناة طويلة، للأمة ومكوناتها، بعد ما يزيد على القرن من التحولات، التى أنتجت تحديات متلاحقة، وصدامات أيديولوجية ومادية».
ورأى المتحدث أن المشروع النهضوى العربى الذى بدأ يتشكل منذ منتصف القرن التاسع عشر، لم يتسن له «الانتقال إلى الواقع، على نحو يتيح تقييمه بصيغة شمولية، وإن كانت التجربة لا تخلو من دروس مستفادة من واقع التراجع والانتكاس»، مع استحضاره كون الرؤى النهضوية «حصيلة جماعية» تدور فى فلك الحوار المعرفى الشامل الذى يتوخى مصلحة»، فى إطار «منظور تنموى شامل»، يجعل الإنسان «أساس المواطنة وعمادها».
وتقتضى «التنمية بمفهومها الشامل»، وفق هاشم، إعادة الترابط العربى فى حقول التنمية الذى يبدأ بالمفاعيل الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وصولا إلى بناء كتلة اقتصادية تشكل صوتا للمنطقة العربية ضمن كتل متنافسة أخرى.
إما «وعى بالتهديدات» أو «مزبلة التاريخ»
تاج الدين الحسينى، أكاديمى محلل سياسى مغربى، نبه من جهته إلى وجود «تهديد حقيقى لهويتنا وعروبتنا، لا يقتصر على العروبة كفكرة وممارسة، بل يهدد كياننا من الداخل والخارج».
ولم يرَ الحسينى «إمكانية لمستقبل أفضل» إلا بالعودة إلى «أنفسنا، وأوطاننا، وبلداننا»، و«تطبيق المعايير الكبرى التى اعتمدتها الحضارات الكبرى فى سلوكها، من تطبيق ديمقراطى سليم فى مؤسساتنا دون الاقتصار على الانتخابات التشريعية»، فى واقع يشهد وجود «زعامات ماراثونية تؤدى إلى عزوف الشباب، ومؤسسات فكرية تغيب فيها النزاهة الفكرية والصدق»، وهو ما يظل معه «السلاح الوحيد بأيدينا: إصلاح الداخل الوطنى بكل بلد، فى انتظار مرحلة أفضل لنتحدث عن الاندماجات الإقليمية، ثم الوحدة، ثم أمة تستحق مواجهة باقى الأمم كنموذج للرقى والحضارة والتقدم».
النص الأصلى: