نشر موقع خط 30 مقالا لرئيسة قسم التصوير بجريدة الشروق سابقا ومدربة فى مشروع التصوير العربى الوثائقى حاليا، راندا شعث، تعرض فيه عددا من الرسائل المتبادلة بينها وبين المصور الفلسطينى سامح رحمى تعكس قسوة حياة الغزاويين تحت الحصار والقصف الإسرائيلى، ومحاولاتهم للتحايل على مشاعر القلق والخوف والتعايش مع هذا الواقع... نعرض من المقال ما يلى.
أنتظر رسالتك طوال النهار، أيضا طوال الليل وإن غلبنى النوم أحيانا. شحيح الإنترنت عندك والكهرباء. لكنى أبقى على أمل وصولها لأطمئن عليك.
أنا بالأساس مصورة، ولسنوات أعمل أيضا كمدربة تصوير وتابعت الإشراف على مشاريع العديد من المصورين والمصورات فى أكثر من مكان من عالمنا العربى الواسع الضيق، ربطتنى بهم علاقات زمالة وصداقة وألفة أعمل معهم على رعايتها دائما، أفكر أن لدى عائلة كبيرة مترامية الأطراف.. أنت تعرف هذا أليس كذلك؟ كنت المشرفة على مشروعك الفوتوغرافى الذى تحاول فيه عبر سنوات التوثيق للذين فقدوا أطرافهم فى حروب غزة.
تبنيتك حين صرت تنادينى بـ«أمى». تبادلنا حكاياتنا وعجبنا للتقاطعات العديدة. ربما ليس عجيبا أن آلام وأحلام الفلسطينيين فى كل أرض تتشابه على مر 75 عاما من الاحتلال والتهجير. كان نصيبك أن يتزوج أبيك بمهجرة إلى لبنان فتولد أنت هناك وينتهى بك الأمر فى غزة، ويتزوج أبى بمصرية وأعيش أنا فى القاهرة. «الناس عم تطلع من غزة وفى ناس مش قابلين يتركوا بيوتهم لكن تقريبا المدينة فاضية. راح أبعت البنات وأمهم عند أهلها بدير البلح» «ماما أنا بخير بس الوضع كتير صعب ضرب بكل مكان مجازر عم تصير» «يارب الله ينجينا من اللى جاى» «مفيش سيارات بفكر أمشى 20 كيلو وباوصل للبنات» «أمى يمكن الساعة 12 تنفصل كل خدمة الاتصالات والانترنت عن القطاع بشكل عام» «لو فقدتى معنا الاتصال اعرفى إنه إحنا بخير ومهما شفتى على التلفزيون صور حنكون بخير وأنا حاعمل كل جهدى إنى أخبى بناتى بعيونى وأعمل المستحيل إنى أحميهم» «ما ضلش مى بخزانات المى ومفيش حتى مى بكل قطاع غزة وفى صندوق مى معدنية بدناش نتصرف فيه عشان الصغار» «حاطلع بعد شوى أجيب مى من نفس المكان اللى بعبى منه بس يهدى الطيران دعواتك أعرف أجيب وأرجع سالم من المشوار» «دبرت غالون مى» «نفسى أتحمم» «حاشوف بنتى بتبكى وبرجع باحكى خافت عشان بلش الضرب من جديد»
• • •
القلق والانتظار سمة أيامى.. أعيش أدعو، أحيا بأمل أن تنجو، أن ننجو.. ولكن ماذا أنتظر؟ «بنتى عم تجيها حالة كل ما يصير قصف فجأة بتقولى مش قادرة أمشى ومغص» «ما لقيت ولا دوا من اللى كتبتيلى إياهم ح نستخدم طب بديل ونحط زيت زيتون على جسمها ونفرك عضلاتها» «مفيش فاكهة وبخاف آكل خضار ممكن يكون صار مسموم من القصف باكل بلح عن الشجر كل يوم» «انضرب بيت اهلى من شوى حدا خبرنى ذكريات كتير فيه. مش زعلان على الحجار بتنبنى. الله يعوضنا خير وبيت أحسن منه» «الله يصبر كل بيت تقريبا كل بيت خسر اشى» «فى حدا من ولاد عمامى قدر يهرب اليوم وباقى العيلة بين شهيد أو مش عارف يطلع، ابن عمى أمه مقعدة وهو وحيدها ــ أمه قالت له خذ أولادك أحملهم وسيبنى ــ ما قدرش يحمل أمه» «اليوم تحممت عبيت ميه مالحة وسخنتها على النار ومكانش فى مى أبردها صح اتسلوقت بس حمام ملوكى هههه»
• • •
أكتب لك بعد أن وعدتنى عائلتى فى الإسكندرية أنهم سيقومون لك بصلاة استسقاء جماعية. «شو كاتبين أخبار عن مستشفى الشفاء واللى بصير حواليها؟.. أصلا بطلنا نسمع صوت طيارة لما ينزل الصاروخ بس بنسمع إشى فقع فجأة» «صليت وحطيت بناتى بحضنى وضليت مادد جنبهم حاموت نعس ــ مخى نايم وعيونى مفتحة.. قلبت الدنيا اليوم على منوم مش ملاقى ههههه»
• • •
«أنا أكلت بلح وشوية زعتر» ليلة الامتحان كانت معلمة الحساب تنصحنا دائما بأكل الزعتر فهو يقوى الذاكرة.. هل أحتاج الآن إلى أن تقوى الذاكرة؟ أم أن تضعف فتلقى تلك الأيام بعيدا.. وبسرعة! «بنتى طلبت منى برتقال وعرفت أجيب لها اليوم» «بتقولى إنها مشتاقة للمدرسة وصفها وللمعلمة تاعيتها».
• • •
محاولة لمقاومة القلق؛ أقرأ السيرة الذاتية للكاتب الفلسطينى إبراهيم نصر الله. اتخطى رومانسيته المفرطة بمعلوماته عن الذين هجروا إلى الأردن فى النكبة الأولى. أجفل لوصف رحلتهم عبر الوادى بمتاع قليل وعطشهم المميت حتى وصلوا المخيم الأول. أتخيلك كما تصف لى كل يوم تحت القصف باحثا عن ماء. لم كتب علينا أن نشهد نكبة ثانية؟ أكتب لك عن محبة لشجاعتك وصمودكم. ثم أصمت. استحى أن أحكى لك عن احساسى بالقهر والعجز. «هلأ عم ببعتولى من جوا غزة إنه فى مجزرة كبيرة صارت فى قصف مستشفى المعمدانى كل ولاد عمامى عالقين جوا ما عرفوا يطلعوا ومعهم أطفال.. طيب شو العالم بيعمل؟ ليه العرب ساكتين»؟ «مفيش مى كمان من الصبح غير كم صندوق جبناهم للشرب» «البحر قريب بس مخاطرة الواحد يروح هناك كل الشط زوارق» «مغيمة كتير ممكن تشتى لو شتت بنعبى بالطناجر» «راح أنزل تحت القصف لازم ألاقى مى» أفكر فى المطر، هل من الأفضل أن تمطر هناك الآن؟ وهل سيأتى المطر وحيدا؟ وماذا عن البرد.. ألن يأتى هو الآخر؟ وأتذكر بدر شاكر السياب.. «أتعلمين/ أى حزن يبعث المطر، وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع، كأن طفلا بات يهذى قبل أن ينام بأن أمه التى أفاق منذ عام.. فلم يجدها، ثم حين لج فى السؤال قالوا له: بعد غد تعود.. لا بد أن تعود». «أنا اللى مانعنى أنزل أصور بالشوارع عشان بنتى بتقول لى أنا أهم من شغلك وحلفتنى ما أتركها.. اليوم بتقلى يا بنعيش سوا يا بنموت سوا بقلها وين سمعتى هذا الكلام بتقولى أنا ما سمعت أنا بدى أعيش معك وأموت معك».
• • •
«احنا بخير لهلأ الحمد لله بس مفيش نت ولا بطارية أغلب الوقت» كلماتك شحت واقتصرت على.. «نحن بخير» أو «ما زلنا أحياء» «أنا بخمس على كاسة قهوة من الصبح كل كم ساعة شوى المسموح كاسة صغيرة باليوم أمى مخبية كيس القهوة مع مفتاح الدار» مرة حلمت أن يكون لى ولو كوخ فى دير البلح المنطقة القريبة من البحر والمليئة بالنخيل، ربما لأنها ذكرتنى بأماكن قريبة من القلب، لذا عندما أرسل لى صورة وقال: «مكانى المفضل بين النخلات»، أجبته: «احجز لى مكان جنبك».
النص الأصلى