من منا يدخل فى زحمة التخلص من الفوضى أو من الكراكيب فى آخر السنة؟ ها أنا أرفع يدى، لأننى بدأت بفرز الكتب وعبوات الصابون المجانية وأوراق طبعتها خلال السنة لقراءتها فى يوم هادئ، ولم يأت هذا اليوم.
من يخرج ثيابه من الخزانة لمراجعة ما سوف يحتفظ به وما سوف يقرر أخيرا أنه لم ولن يعد يرتديه؟ ها أنا أرفع يدى ثانية.
والآن التمرين الأصعب: من منا يراجع علاقاته الإنسانية ويقيمها فى آخر السنة بغية التأكد أنه محاط بأصدقاء قد لا يرى الكثير منهم بشكل دورى إنما يطوقون الشخص بدفء وصلابة فلا يقع؟ أنا هنا أرفع اليدين.
•••
نهاية السنة موسم التخلص من الكراكيب: موسم الفرز وموسم أكوام من الأشياء والوجوه أصنفها حسب تعلقى بها والأهم فأنا أصنفها حسب يقينى بأنه ما زال يربطنى بها بعض الحب أو كثيره. أفرغ رفوفا كاملة مما تحتويه وأنظر بعناية إلى كل غرض. أفرغ صفحات افتراضية من أرقام الهواتف وأسأل نفسى عن آخر لقاء جمعنى بالأسماء. قد تكون لقاءات متكررة بحكم أننا نعيش فى البلد ذاته أو تتقاطع حياتنا فعليا أو افتراضيا فتستمر العلاقة. قد يكون عمر آخر لقاء سنوات إنما كان لقاء حقيقيا فيه عواطف صادقة واستمرار لصداقة لم يضعفها الزمن والتنقل إنما برهن اللقاء أن للحديث مع الشخص دوما بقية، حتى لو تباعدت اللقاءات.
•••
فى الأيام الأخيرة من السنة تكثر لعبة الجوائز والعد التنازلى، فنرى كثيرا من النقاشات حول أفضل عشرة أفلام أو كتب أو مبادرات حدثت خلال السنة. على صعيد فردى من منا لم يفكر بعامه المنصرم لتقييم أحداثه الفرحة والحزينة ومن ثم الوصول إلى نتيجة أنه كان عاما مليئا بالأحداث؟ وهل من عام فارغ منها؟ لا أذكر نهاية سنة لم أعدد فيها الأفراح والأحزان، لا أذكر أياما أخيرة من أى عام على وشك الرحيل دون عملية عقلية أجريها كل صباح فى الأسبوع الأخير على رائحة القهوة قبل أن تترتب أفكارى، حيث أفكر بأشخاص دخلوا على حياتى وبقوا فيها بأشكال مختلفة جميعها مؤثرة.
•••
سألنى أطفالى أخيرا عن صديقات تتردد أسماؤهن كثيرا فقلت إنهن صديقاتى المقربات. تفاجأ أطفالى إذ أننى لم أر بعضهن منذ سنوات ولم يفهم أولادى سر صداقات لا تغذيها اللقاءات المنتظمة. وهل من حاجة، خصوصا فى عصر سهولة التواصل، للقاءات منتظمة؟ طبعا لا شىء يغنى عن حديث فى قهوة أو مشوار فى مدينة مكتظة يرتطم ضجيجها بكلماتنا، فالتواصل الافتراضى لا يعوض من جمال ودفء اللقاء الفعلى. إنما ها أنا أكتشف مع الوقت أن الصداقات المتينة لا تتأثر بعامل الوقت والبعد. هى كالذهب الخالص تلمع فى النور وفى الظلام.
•••
أستنجد بصداقاتى وأكشف عن شكوكى وخوفى. أقول إننى أمر بمرحلة فيها تحديات لم أعتد على مواجهتها. أشارك بعض الأصدقاء تفاصيل المرحلة، أبتعد عن النص، نص الاجتماعيات وأولوية أن يكون الشخص لطيفا وإيجابيا. أعترف أن نهاية هذه السنة حملت معها مشاكل لم أتوقعها وها أنا أواجهها وأحاول أن أرى ما بعدها. يلمع أصدقائى كالذهب فى موسم تختفى فيه الشمس. ينورون لى طريقا بين الغيوم بكلامهم وتواصلهم ودعمهم.
•••
عملية الفرز فى نهاية السنة ليست أبدا بهدف محاسبة أشخاص فى حياتى على مواقفهم من علاقتنا أو على مساندتهم أو إهمالهم لى، أنا لا أعاتب ولا أحاسب أى فرد. كما أننى أعتبر أى علاقة، عميقة كانت أو سطحية، هى من مسئولية الشخصين، وبالتالى فأنا مسئولة عن مجرى الصداقة واستمرارها أيضا. فى الأيام الأخيرة من السنة، كل سنة، أفتح أدراج ذاكرتى درجا تلو الآخر وأفرغ محتواه على السرير لأفرز ما فيه وأحتفظ بما سوف يرافقنى فى عبورى إلى السنة الجديدة.
•••
هناك تحرر يأتى مع التخلص من الكراكيب، الكراكيب البشرية أيضا! هناك شعور مطمئن جدا فى الاحتفاظ بما يضيف غنى إلى روحى وإلى قلبى سواء كانوا أشخاصا أو أشياء. أتخلص من ثقل الناس والكراكيب وأحتفظ بالذهب الخالص: وجوه وأصوات تردد كلمات تطبطب على قلبى، صداقات لا أرى شركائى فيها لسنوات إنما هم موجودون فى كل مراحل حياتى ويضيفون إليها سكونا وإثارة، يضيئون لى طرقا قد لا تكون واضحة أمامى إنما يرونها هم ويشاركوننى بها.
•••
لقد كان عاما مليئا بالأحداث، ككل عام على فكرة، إذ يبدو أن سنة الكون كما يقال هى خطوط مشربكة يصعب فكها بينما نحاول نحن دون توقف أن نفكها. ألا نتعلم من سنة إلى سنة أن لا خطوط مستقيمة فى الحياة؟ الخط المستقيم يعنى قلبا ميتا! لذا ففى الخطوط المشربكة حياة وإيقاع وأحداث ترافقنى فيها صداقات أقف أمامها فى نهاية هذه السنة مع شعور هائل بالامتنان: تواصل مستمر أو متقطع لا يهم، ما يهم هو لقاءات كومضات فى الظلام أضاءت قلبى ودعتنى أن أستمر بالحلم وبالمغامرات. كم هى مريحة عملية الفرز فى آخر السنة، وكم هى مطمئنة الأشياء والصداقات التى أعيد تغليفها بورق من الحرير حتى أحملها إلى عامى الجديد.
كاتبة سورية