أحب الإسكندرية، وأعشق المشى على غير هدى فى شوارعها الخلفية التى تسكنها «روح المكان» بتعبير الجغرافى الأشهر جمال حمدان، هى المدينة التى أتى عليها حين من الزمان كانت فيه مركز العالم و«كعبة الفنانين والشعراء الذين يقصدونها من أنحاء بلدان البحر المتوسط»، كما يقول المؤرخون الذين سجلوا أسفارا من تاريخ المدينة الحافل بالأحداث.
الإسكندرية التى قال أحدهم إنها تطل على بحر حالم، هى نفسها التى قال كاتب آخر إنها «ليست حديثا معادا، لكنها استكمال لحديث»، وهى موطئ السحر ذاته الذى استنشق عبيره آلاف الشعراء والأدباء والمفكرين الذين مروا على المدينة منذ أن بناها الإسكندر الأكبر المقدونى عام 331 قبل الميلاد، لتصبح مدينة عالمية على الشاطئ المتوسطى فى شمال القارة الإفريقية.
فـ«الرقة والفضيلة والحكمة والجمال، صفات ليست كافية»، عند الحديث عن الإسكندرية التى ألهمت الروائى لورانس دوريل رباعيته الشهيرة، وأبدع فيها قسطنطين كفافيس أشعاره التى كانت لسانا يونانيا مبينا هائما فى حب مدينة لم يعشق غيرها، وظل على ولائه العميق لشوارعها وكورنيشها وبحرها فى هدوئه وصخبه على السواء، فانتهى به المطاف فى المدينة و«لم يأمل فى أى شىء آخر فى مكان آخر».
فى كتابه «الإسكندرية تاريخ ودليل» يقول الروائى الإنجليزى إى إم فورستر، وقد عاش بالمدينة معظم فترة الحرب العالمية الأولى، إن «مدن قليلة لها هذه الروعة، هى التى دخلت التاريخ مثل الإسكندرية التى بناها الإسكندر الأكبر»، أما مبدعنا الكبير صاحب نوبل، نجيب محفوظ، فيقول فى رائعته «ميرامار» التى خرج بها عن عالمه القاهرى إلى الثغر المحبوب، واصفا الإسكندرية بأنها «قلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع».
أما عمنا الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم فلم يبخل عليها بالحب الخالد وهو يقول «يا إسكندرية بحرك عجايب.. يار يت ينوبنى من الحب نايب.. تحدفنى موجة على صدر موجة.. والبحر هوجة والصيد مطايب»، قبل أن يستبد به الوجد اللاهب فيقول: «يا إسكندرية عاشق وبدى.. ارتاح فى حضنك الود ودى..يكون كلامى عربون غرامى.. وبالمحبة ناخد وندى». لينتهى به الغرام إلى تسليم أمره إلى ذات اللون الخمرى الذى «مقدرش أشوفه وما اغنيلوش».
هكذا هى الإسكندرية بهية على الدوام، تستبد بكل عشاقها فيرفعون رايات بيض اعترافا بهزيمتهم أمام جمالها الأخاذ، فلا تظهر مفاتنها إلا لمن قدموا قرابين الوجد، وعبروا عن مدى جنونهم بوردة طالما سحرت محبيها، فهاموا ولعا يقلبون وجوههم فى الأفق على امتداد بحرها الأزرق الصافى.
كل هذا السحر الذى تشكله الإسكندرية فى وجدان كل من مر بها ولو صدفة، هل يستقيم مع ما رأيناه قبل أيام من عجائب عندما خرج نفر يحسبون، للأسف، على أهالى المدينة الكرماء الطيبين، ليجوبوا بعض الشوارع فى تحد لقرارات حظر التجمعات منعا لانتشار وباء كورونا اللعين، وهم يرددون صيحة الحق «الله أكبر» التى أرادوا بها باطلا؟
هل سيهرب الفيروس الذى حير علماء العالم وفرض «الموت الاجتماعى» على نصف سكان الكرة الأرضية حتى الآن، من مسيرات نظمها نفر من سكان الإسكندرية الذين جلبوا موجة من السخرية على أبناء مدينتهم العريقة؟، ما الذى كان يدور فى ذهن أصحاب هذه المسيرات الغريبة؟!
إذا كان منظمو تلك المسيرات يعتقدون أن كورونا سيموت بدعاء كتلة بشرية متحركة يمكن لها أن تفاقم أضرار الوباء، ومن دون الأخذ بالأسباب العلمية لمكافحة الفيروس فتلك مصيبة، وإذا كانت مسيراتهم مدبرة بليل للمكايدة السياسية فالمصيبة أعظم، لأننا فى هذه الحالة نكون أمام جماعات تستخف بأرواح الناس، ولا تقيم وزنا لعقل أو منطق، ومثل هؤلاء مستشفيات الأمرض النفسية أحق بهم وأولى.
مؤكد أن الإسكندرية بريئة من مثل هؤلاء الجهلاء الذين عششوا فى جحورها فى غفلة من الزمن، للانقضاض على شخصيتها المنفتحة وروحها الجميلة التى عرفت عنها على مدى آلاف السنين باعتبارها مدينة «العقل والحكمة».. لكنها، رغم ذلك، ستظل: «الأميرة ع الدنيا طاله».