هذا الهرج والمرج حول الثوابت - علي محمد فخرو - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:44 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هذا الهرج والمرج حول الثوابت

نشر فى : الأربعاء 30 مايو 2018 - 9:45 م | آخر تحديث : الأربعاء 30 مايو 2018 - 9:45 م

لنلاحظ الهرج والمرج الذى يسود الحياة الثقافية والفكرية العربية فى الوقت الحاضر. فنحن أمام هيجان عاطفى يائس وغير موضوعى، ويكاد يكون طفوليا طائشا، يتمثل فى رفض غاضب لكل ثابت تاريخى وضرورى من ثوابت الأمة.

هناك هجوم حاقد مستهزئ ومشوه لهوية العروبة الجامعة التى بناها التاريخ وعمل لبلورتها وتأكيدها سيل هائل من الإنتاج الثقافى العربى بكل تجلياته، وهناك تشكيك بكل محاولة للوحدة العربية حتى ولو كانت مطلوبة لمواجهة الأخطار الهائلة والتحديات الكثيرة التى واجهتها ومازالت تواجهها الأمة، وهناك استنفار هستيرى لإبعاد الدين، حتى بألقه الروحى وقيمه الأخلاقية الإنسانية، إبعاده عن حياة المجتمعات العربية العامة، وهناك تراجع انتحارى عن العديد من الثوابت القومية السياسية المصيرية من مثل ضرورة المجابهة العربية المشتركة للخطر الوجودى الصهيونى التوسعى العنصرى فى أرض فلسطين المحتلة أو من مثل بناء إرادة عربية مشتركة لمقاومة التدخلات والابتزازات الإمبريالية فى الحياة السياسية والاقتصادية والأمنية العربية.

قائمة التراجعات تلك طويلة ومفجعة. لكنها تصبح كارثية عندما نرصد ما يقابلها. فهناك قبول أعمى ودعم حماسى لكل منطلقات العولمة النيوليبرالية فى الاقتصاد الرأسمالى المتوحش الخاضع لمصالح وإملاءات المؤسسات والشركات العابرة للعقارات، وفى تخلى الدولة عن مسئولياتها الاجتماعية، من خلال التوجه المتنامى نحو الخصخصة لكل نشاطات الحياة الاقتصادية والخدمية، وفى الاندماج بلا تحفظ وتعظيم الثقافة العولمية الحسية الاستهلاكية على حساب الثقافة الإنسانية المتوازنة العميقة الداعية للنبل والسمو الإنسانى، وبالطبع قبول كل ذلك هو تمهيد للانسلاخ من ثوابت الأمة السياسية والاقتصادية والثقافية والقيمية التى ذكرنا بعضها سابقا.

والنتيجة هو التيه والضياع وعدم الالتزام بالمسئوليات الوطنية والقومية والإنسانية الذى تعيشه غالبية شباب هذه الأمة بالنسبة لحياتهم الفردية وحياتهم العامة، وانجرافهم نحو الحياة الأنانية اللا مبالية المنغلقة حول الذات الفردية التى تمجدها حضارة العصر كبديل عن حياة الاجتماع الإنسانى المتعاضد المشترك، حتى أصبحت الفردية المفرطة إلها من آلهة العصر ومنهج حياة يعلوا فوق كل منهج.
***
نحن بالطبع لا نرى عيبا فى رفض كل ماهو خاطئ فى حياة الأمم ومراجعة كل ما هو جامد ومتعثر ومحاولة التجديد والإبداع الدائم، خصوصا من قبل المفكرين والمثقفين الملتزمين. فهذا من طبائع الأمور فى حياة الأمم الحية ومن أهم مسئوليات أصحاب الفكر والثقافة والإعلام وحاملى مسئوليات الحياة العامة.

لكن مراجعة الثوابت وتحسين ظروفها لا تعتمد فقط على الإعلان الصاخب عن رغبة المراجعة والتغيير، ولا على هدم المعبد على من فيه، كما يفعل أصحاب الهرج والمرج حاليا، وإنما تعتمد فى الأساس على كيفية القيام بتلك المراجعة: على مدى وعمق مراجعة الماضى وتحليله بطريقة علمية موضوعية، على صدق ورزانة نقده وإعادة تركيبه ليكون صالحا للتطبيق فى الواقع، على مدى توازى عملية الهدم والتجاوز مع عملية بناء الجديد، على مدى خدمة الأمة والأوطان وليس الاندماج فى مشاريع أعدائها الذين يبتغون من عملية النقد والمراجعة إدخال الشكوك واليأس فى عقول أبناء الأمة، على تقديم تصورات جديدة لمسارات جديدة تنطلق من تراث وواقع الأمة لتنقلها إلى الآفاق الجديدة المنشودة.

إنها عملية تحتاج إلى جهود كبيرة، وعمل جماعى، وصبر حكيم، وعدم السقوط فى الفوضى الفكرية والانتحار السياسى العبثى. وهذا ما نفتقده عند كثير من أصحاب الهرج والمرج فى أيامنا الحالية.

***

لنأخذ مثالا للتوضيح. ما الذى يقترحه المستهزئون بديلا عن هدف الوحدة العربية؟ بقاء وأبدية الدولة الوطنية العربية؟ لكن الأمة جربت ذلك منذ استقلال تلك الدول، فما حصدت كل الدول إلا فشلا ذريعا فى الوصول إلى التنمية الإنسانية المستدامة والاستقلال الوطنى والتجديد الحضارى والانتقال إلى نظام ديموقراطى معقول. وها نحن نرى أمامنا إمكانية اختفاء بعض الدول العربية من الوجود، إما احتلالا كما الحال فى فلسطين المغتصبة وإما تمزقا وتشرذما كما الحال فى العديد من دول المشرق والمغرب.

ومن المفجع أن مصير الاختفاء أو البقاء فى حالة ضعف وتشرذم تقرره قوى الخارج، بينما تقف دول الأمة العربية جميعها عاجزة عن التأثير فى أى من تلك القرارات الخارجية.

وهنا لابد من إعادة التذكير بأنه لو أن سوريا اتحدت مع العراق، يوم كان يحكمها حزب واحد، لما حدث لكليهما ما حدث. ولو أن اليمن أدخل فى منظومة مجلس التعاون الخليجى لما رأينا أمامنا الوضع المأساوى الذى وصل إليه والذى يهدد وجوده.
نفس المنطق ينطبق على مواضيع الاستقلال الوطنى والقومى من التبعية للخارج، ومن التخلف الاقتصادى الذى تعيشه كل الأقطار العربية بدون استثناء، بل ومن كل هدف حضارى أرادته كل دولة عربية لنفسها.

فهل حقا أن هدف الوحدة العربية بصورة تدرجية منظمة كان حلما بليدا ساهم فى إيصال الأمة إلى ما وصلت إليه من دمار وضعف، أم أن الإصرار على بقاء التجزئة الكاملة، التى رفضت التعاون والتنسيق فى صورة التدرجية، كان هو السبب فى ما نحن عليه.

إذا كان أصحاب الهرج والمرج يريدون مساعدة هذه الأمة، كما يدّعون، فلينيروا طريق الأمة بشمع البدائل المعقولة غير المجنونة بدلا من لعن الظلام الذى يتسببون فى زيادة حلكته وسواده.

dramfakhro@gmail.com

علي محمد فخرو  شغل العديد من المناصب ومنها منصبي وزير الصحة بمملكة البحرين في الفترة من 1971 _ 1982، ووزير التربية والتعليم في الفترة من 1982 _ 1995. وأيضا سفير لمملكة البحرين في فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، وسويسرا، ولدي اليونسكو. ورئيس جمعية الهلال الأحمر البحريني سابقا، وعضو سابق المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة العرب، وعضو سابق للمكتب التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات فلسطينية. وعضو مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبييشغل حاليا عضو اللجنة الاستشارية للشرق الأوسط بالبنك الدولي، وعضو في لجنة الخبراء لليونسكو حول التربية للجميع، عضو في مجلس أمناء الجامعة العربية المفتوحة، ورئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث.
التعليقات