دروس أحمد بهاء الدين - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 7:36 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دروس أحمد بهاء الدين

نشر فى : الجمعة 30 أغسطس 2019 - 11:00 م | آخر تحديث : الجمعة 30 أغسطس 2019 - 11:00 م

كتب صديقى الناقد الكبير محمود عبدالشكور ذات مرة أن الصحفيين الجدد ثلاثة أنواع:
نوع (موهوب) ولا يحتاج إلا أن تطلب منه أن يستمتع بعمله.. فيبدع ويتألق ويملأ الدنيا ويشغل الناس.
ونوع (موهبته محدودة) .. ولكن لديه طاقة كبيرة على العمل.. ويحتاج فقط أن تطلب منه الاجتهاد وإتقان العمل بقدر الإمكان.
والنوع الثالث (لا موهوب)، و(لا توجد لديه طاقة على العمل)، وهذا النوع موجود بكثرة مع الأسف، وهؤلاء الأشخاص مرشحون للانتهازية والوصولية وإفساد عمل الآخرين دائما!!
أما النوع الأول الذى كاد أن يندثر تماما فى هذه الأيام العجيبة؛ فكان هو السائد والأكثر حضورا وبروزا فى المشهد الصحفى المصرى فى القرن العشرين؛ لم يكن هناك اسم واحد موهوب فقط، ولا صحفى واحد فقط يشار إليه، وكان الله بالسر عليما؛ كان المشهد مزدحما ومتألقا ومتوهجا من أول محمد التابعى، ومرورا بأسماء هيكل، والأخوين أمين، ومحمد عبدالقادر، وأحمد بهاء الدين، وكامل زهيرى، ورجاء النقاش، وجلال الدين الحمامصى.. وخذ وقتك فى العد والإحصاء من هنا إلى ما شاء الله!
ومن كبار الكتاب والصحفيين الذين تستلتهم منهم التجارب، وتستخلص الدروس، وتستحضر القيم التى آمنوا بها ودافعوا عنها وضربوا أروع الأمثلة فى الارتقاء بقيمة العمل الصحفى، والحفاظ على كرامة وحضور من يمتهنون هذه المهنة؛ يبرز على الفور اسم الكاتب الراحل الكبير أحمد بهاء الدين؛ ضمير الصحافة المصرية النزيه، الذى وصفه المرحوم صلاح عيسى بأنه «مهندس الصحافة المصرية».
تجربة أحمد بهاء الدين أكبر من أن تختزل فى مقال أو تكثف فى مساحة محدودة مثل هذه؛ لكن الإشارات قد تغنى عن التفصيل؛ لم يكن النبوغ والموهبة والاستعداد الفطرى كلها تكفى للوصول إلى القمة؛ فثمة عمل، وعمل كبير، ودءوب ومخلص لتحقيق الذات والمشاركة بقوة وفعالية فى النشاط العام من خلال منبر الصحافة؛ ربما كان القاسم المشترك الأعظم بين كل هؤلاء الكبار فى هذا الجيل هو «الثقافة» واستكمال أسس التكوين الثقافى العميق والحقيقى فى تجربة هؤلاء جميعا، وفى القلب منهم أحمد بهاء الدين.
كان المرحوم هيكل يقول «إننى واحد من الذين يعتقدون أن الفن هو الأب الحقيقى للثقافة فى جميع مجالاتها، ثم إن الفنون التشكيلية هى الحلقة الرئيسية فى قصة الصعود المدهش على سلم الحضارة الإنسانية».
كل أبناء هذا الجيل كانوا من كبار المثقفين؛ ملكاتهم اللغوية مذهلة، وقدراتهم التعبيرية ليس لها مثيل، واطلاعهم على الآداب والفنون المحلية والعالمية يدوخك ويبهرك من عمق المعرفة وغزارة المادة ودقة النظر؛ ومثل أبناء جيله من الصحفيين الكبار كامل زهيرى، ومحمد عودة كان أحمد بهاء الدين شغوفا بالفن التشكيلى (كما يروى الأستاذ عبدالله السناوى فى كتابه الممتع عن هيكل).
بهاء أطلق من تحت عباءته كرئيس تحرير لمجلة «صباح الخير» جيلا من رسامى الكاريكاتير العظام؛ خذ عندك: صلاح جاهين، وحجازى، وبهجت، وبهجورى، ورجائى ونيس، وإيهاب شاكر، وهو الذى احتضن موهبة المخرج الصحفى عبدالغنى أبو العينين الذى أسس الفرقة القومية للفنون الشعبية، وصمم أزياءها.
ثمة إجماع على أن ثقافة المرحوم أحمد بهاء الدين الأدبية والتاريخية والفكرية كانت مذهلة، بل إنه وحسب كثير ممن أرخوا له نظم الشعر حتى تخرج فى الجامعة، فقنع بالكتابة السياسية، لكنه ظل قارئا للأدب. وفى عموده اليومى فى (الأهرام) شن حملات صحفية ضارية لكى لا تُبنى أبراج سكنية مكان مبنى دار العلوم القديمة، كما أن حملاته أحبطت مشروعات تجارية لهدم قصر محمد على توفيق بالمنيل، وهدم حديقة الأورمان وتحويلها إلى أبراج. اتسمت كتاباته بقدرة إقناعية، وبخطاب مكثف هادئ النبرة يحرص على الدقة والوضوح، فقد كان يرى أن الصحة الأسلوبية قرينة الصحة الفكرية.
كان واحدا من قليلين فى تاريخ الصحافة العربية كله، لديهم القدرة على أن يضفوا على المطبوعة التى يرأسونها أو يشرفون على تحريرها، شخصية خاصة بها، فجاءت شخصيات الصحف العريقة التى رأس تحريرها، لتختلف عن غيرها، وعن شخصيتها هى نفسها من قبل ومن بعد، بل وتختلف ـ كذلك ـ عن الشخصيات التى أعطاها هو نفسه، لغيرها من المطبوعات..
(وللحديث بقية)..