عدت بعد انقطاع 4 سنوات لحضور لقاء ريمينى للصداقة بين الشعوب الذى ينعقد فى إيطاليا سنويا منذ 44 عاما، وكان لى شرف الحضور لثلاث مرات سابقة، وهذه المرة وجدت ان أشياء كثيرة تغيرت، ففى إطار الحيوية التى تلزم المؤسسات الاوروبية بتغيير القادة وبث دماء جديدة يصبح التغيير سنة حميدة من سنن الحياة. جاءت وجوه جديدة لقيادة حركة (شراكة وتحرر) التى تنظم اللقاء، وأصبح يقودها الآن أستاذ للكيمياء الحيوية فى (بيكوكا) هو ديفيد بروسبيرى يريد أن يستكمل نجاحات الحركة التى أسسها الراهب جوسانى عام ١٩٥٤، وقد دون جوسانى أفكاره حول الدين والحياة فى كتاب عنوانه (الحس الدينى) قدمه إلى قراء العربية قبل سنوات الصديق وائل فاروق الذى انضم منذ سنوات لمجلس أمناء اللقاء، وحرص على انفتاحها على العالمين العربى والإسلامى ومد بنجاح لافت جسورا للحوار الفكرى وأصبح التمثيل العربى فى اللقاء له ثقل كبير ومساهمات متميزة. وهذا العام ظهرت اللغة العربية للمرة الأولى ضمن لغات اللقاء وظهرت على منصاته المختلفة. ويقدم لقاء ريمينى فرصة مهمة لاكتشاف نموذج مختلف لدور الحركات الاجتماعية وثيقة الصلة بالمؤسسات الدينية فى الغرب ومن خلالها يمكن إدراك الكيفية التى تحول اللقاء عبرها إلى فضاء كبير للحوار حول مختلف القضايا، فقد أصبح أكبر معمل لإنتاج الأفكار فى دول الاتحاد الأوروبى، لذلك يحرص قادة مؤسسات الاتحاد على الحضور، كما يحرص الرئيس الإيطالى ووزراء الحكومة على حضور الجلسات، ومخاطبة الشباب مباشرة والاستماع لأفكارهم. يأتى لـ(ريمينى) متطوعون لا حصر لهم ومن جميع الأعمار ومن أنحاء مختلفة فى العالم وأسعدنى كثيرا أن أجد من بين هؤلاء شباب جاء من مصر خصيصا للمشاركة التطوعية فى حدث حضره ما يزيد عن مليون شخص على مدى خمسة أيام.
وإذا كانت حركة (شراكة وتحرر) التى تنظم اللقاء قد بدأت كحركة كاثوليكية إلا أن فهمها لدور الدين فى المجتمع يبدو مغايرا لما هو سائد، فهى تنظر إليه ضمن القوى الإصلاحية وإحدى أدوات التغيير، لكنها تنزع عنه أى دعوة للعنف ونفى الآخر وإنكار حقه فى الوجود.
وخلال مشاركتى فى اللقاء بصفة صحفية منحنى الرئيس الجديد للحركة السيد بروسبيرى فرصة للقاء معه، استمعت فيه لرؤيته حول مستقبل الحركة وأكد لى أنهم فى لقاء ريمينى يعملون على أسس وسياسات واضحة لا تخضع لرؤية فرد وإنما لمنظومة عمل وسياسات يضعها مجلس الأمناء وأهم ما قاله لى إن الحركة التى يمثلها، هى حركة شعبية من أجل الناس وستواصل العمل من أجلهم. وعلى الرغم من تزايد حجم مشاركة السياسيين فى دورة هذا العام وأولهم الرئيس الإيطالى، إلا أن بروسبيرى الذى يفكر كثيرا قبل ان يتكلم، أكد لى ان الحركة لا تمنح البركة لأحد، لكنها ترحب بوجود أى شخص يرغب فى نقل افكاره إلى الناس والتواصل معهم بشكل مباشر.
ويقول (الأصل فى السياسة ــ كما فى عملنا ــ هو خدمة الناس)، يمثل بروسبيرى صورة جديدة لقادة الحركات الاجتماعية الذين يأخذون الشباب إلى فهم مختلف لمعنى الايمان، فالايمان الدينى فى ظل الاضطرابات والتحولات التى نشهدها لم يعد يقدر وحده على تقديم اجابات للتساؤلات التى يطرحها العلم فى مساره الجديد أو للمناخ الذى يدفع فيه رجال السياسة العالم إلى مزيد من الأزمات، لذلك يفضل لقاء ريمينى ان يفسح الباب امام علماء العالم، وفلاسفته على المجىء لمخاطبة الشباب، وتأكيد ثقتهم فى الإيمان بالعلم. داخل اللقاء تابعت عشرات الندوات المعنية بالمستقبل، ولاحظت أن اللقاء تخلص أخيرا من الكلام التقليدى المتكرر عن ثقافة التعايش، والحوار مع الآخر، وأصبح أكثر شجاعة فى مقاربة القضايا الجديدة، وعلى رأسها الذكاء الصناعى والعلاقة بين الفيزياء والفلسفة. وذهب اللقاء بالعلم إلى آفاق لم يكن يتوقع احد أن تغامر ببحثها حركة انطلقت بدوافع دينية، لكن طموحها المغامر يؤكد ما قاله لى رئيسها عن فهمه لدور الحركة التى يراها (حركة علمانية) بالمعنى اليونانى القديم للكلمة، وليس بالمعنى الذى ساء استعماله لأسباب سياسية، بحيث أصبحت ذات سمعة غير جيدة.
فى مدينة (ريمينى) التى أكتشف صفحات من جمالها كل مرة، يتكلم رجال الدين بلسان مختلف، لا يحاولون اختطاف الدين لصالح قوى سياسية ولا يدعون امتلاك الحقيقة، لان ايمانهم بالعلم يجعلهم أبناء الشك، وبمثل هذا الايمان يتغير العالم إلى الافضل.
لأن ما يحرك كل شىء هنا هو الاهتمام بالفرد فالإيمان الصحيح كما فهمت فى ريمينى هو الذى يأخذ الناس إلى المستقبل وليس الذى يشدهم إلى الماضى.