بين الحين والآخر، تفاجئنا وزارة الداخلية بتصرفات فجة معادية للقانون، تعيد لنا ذكرياتنا الأليمة مع ضباطها وأمناء شرطتها قبل ثورة 25 يناير، وكأن حسنى مبارك وولده جمال لا يزالان يحكمان مصر، بنفس العقلية الاستبدادية القديمة، وبنفس أدوات الدولة البوليسية القمعية، وبنفس انتهاكات حقوق الإنسان وإهدار كرامة المصريين.
فى الأسبوع الماضى، عزفت لنا الشرطة سيمفونية كاملة فى فنون التعذيب الجماعى، حينما شنت هجوما مضادا على بيوت الأقباط فى قرية جبل الطير بمركز سمالوط بالمنيا، ردا على رشق بعضهم نقطة الشرطة بالحجارة وزجاجات المياه الفارغة، احتجاجا على مازعموا أنه تقاعس ــ أو قل تواطؤ ــ من الشرطة فى إعادة السيدة المسيحية المختفية، التى قيل إنها أسلمت، وهو ما نفته هى بنفسها بعد ذلك.
صحيح أن هؤلاء الأقباط الغاضبين خالفوا القانون، وكان ينبغى إحالتهم للمحاكمة، لكن الشرطة ــ المكلفة بتطبيق القانون ــ استخدمت نفس المنطق غير القانونى، واعتدى أفرادها بالضرب المبرح على عشرات المسيحيين، وداهموا منازلهم وألقوا القبض على 14 مواطنا منهم، حيث تخلل كل هذا الخروج عن القانون، توجيه السباب لهؤلاء المسيحيين وسحل بعضهم إمعانا فى إهانتهم، وهو ما دعا قوى سياسية عديدة للمطالبة باستقالة وزير الداخلية اللواء محمد ابراهيم.
أما المواطن محمد السيد محمد الشرقاوى فقد تم القبض عليه، بشكل يبدو عشوائيا، بزعم مشاركته فى مظاهرة إخوانية بمدينة دمنهور بمحافظة البحيرة، وجاء بمحضر ضبطه أن المظاهرة كانت ترفع شعارات «حركة ضنك»، ولافتات مناهضة للدولة، وأن المتهم بمنتهى البراءة ــ أو قل السذاجة ــ قال إنه عضو بتنظيم الإخوان الإرهابى، رغم أن شهودا عيان يؤكدون أن نفس هذا الإخوانى الخطير شارك هو وزوجته وأولاده الثلاثة فى مظاهرة أمام مبنى محافظة دمنهور وميدان الساعة، لدعم الرئيس عبدالفتاح السيسى، بعد طلبه من الشعب تفويضه لمواجهة الإرهاب ومافيا الإخوان، كما أن التحريات التى أجرتها الشرطة عنه أخطأت فى عنوان مسكنه، وكل ما فى الأمر أن الضابط كما يقول الشرقاوى نفسه ألقى الأسئلة عليه، وتولى هو بنفسه الإجابة عنها، وهو ما دفعه إلى رفض التوقيع على هذا المحضر، أما ما يثير الدهشة، فإنه كان المتهم الوحيد الذى ألقى القبض عليه فى هذه المظاهرة!
حكاية الشرقاوى تكررت كثيرا فى العديد من المحافظات، فالكثير من الأبرياء ألقى القبض عليهم بتحريات خاطئة، أو لوجودهم بسبب حظهم العاثر بجوار اشتباكات بين الشرطة ومتظاهرى الإخوان، ومهزلة القبض على أحد المسيحيين خلال اعتداء جماعة الإخوان الإرهابية على قسم شرطة مطاى بالمنيا، وقتلهم لنائب المأمور داخل المستشفى، لم تسقط بعد من الذاكرة بعد!
تجاوزات الشرطة لا تقتصر فقط على هذه الأخطاء الدرامية فمنها ما يندرج تحت باب الكوميديا السوداء، فقد أقسم لى أستاذ جامعى مرموق، أنه فوجئ بتوقيع غرامات مرورية غير منطقية بالمرة على سيارته، تتعلق إحداها بتجاوزه السرعة المقررة فى ميدان الجيزة الشهير بازدحامه بمختلف أنواع السيارات من الأتوبيسات حتى الكارو، والثانية تتعلق بالسير فى الممنوع، رغم أنه فى نفس التوقيت كان يقود سيارته فى إحدى محافظات الصعيد، ومع ذلك فقد دفع عدة آلاف من الجنيهات كغرامات لتجاوزات لم يرتكبها!
هذه التجاوزات يعتبرها كثيرون، حتى من معارضى الإخوان، سياسة أمنية ممنهجة كانت عماد دولة مبارك، للسيطرة على حركة الشارع، بهدف تمرير إجراءات اقتصادية تقشفية سيتحمل تكلفتها الأساسية الفقراء ومحدودى الدخل، ومن هنا فإن هناك توجها فى السلطة يتمسك بوجود جهاز شرطة يفتقر إلى المهنية والكفاءة، ويستند فى عمله إلى خرق القانون وقهر المواطنين بالإعتقال العشوائى والحبس الاحتياطى مفتوح المدة!
استقالة وزير الداخلية ليست حلا، فقد يأتى وزير جديد بنفس الدماغ القديمة، فالأزمة أكبر من الداخلية، يقع حلها على عاتق الرئيس السيسى الذى ينفذ مشروعات اقتصادية كبرى لتحسين حياة الفقراء ومحدودى الدخل، دون أن يصاحبها مشروع سياسى واضح يحدد انتماءات فكرية محددة فى قضايا الحريات وكفالة حقوق المصريين السياسية والاجتماعية.. ودون حل هذه الإشكالية، لن نبنى دولة مؤسسات حقيقية، ولن نحظى بـ«داخلية» تدرك أن نجاحها فى عملها يرتبط بتنفيذها للقانون دون تجاوزات ولا أخطاء ولا تغيير وزير بوزير.