يُنسب إلى أفلاطون أنه قال «تكلم حتى أراك»، ونُسب المعنى ذاته إلى الإمام على بن أبى طالب، فما دام كان المرء صامتا فهو كتابٌ مغلق لا يفصح ولا يبين، حتى إذا تكلم وفاه بكلماتٍ، ظهر للعيان مدى وعيه وثقافته وطريقة إدراكه للأمور. فى وسائط الدنيا الحديثة، لم يعد الكلام وحده هو مفتاح وعلامة الحكم على الشخص، كتابته أيضًا (التى لا تنفصل بحال عن كلامه فى العموم) صارت حكما له أو عليه، خصوصا من خلال مواقع التواصل الاجتماعى (وعلى رأسها فيسبوك). وفى فوضى المشهد العبثى الذى ننام ونستيقظ فى ظلاله، لن تندهش إذا وجدت كاتبا «كبيرا» له من الأعمال والروايات الكثيرُ، وطُبعت أعماله مرات، ثم تُفاجأ بمنشورٍ له على «فيسبوك» يسدى فيه النصائح إلى شباب الكتاب أو يعرض لجانب من خبرته «الواسعة» فى الكتابة، ثم تدقق فى القراءة فتكتشف أنه ما من سطر له يخلو من حفنة معتبرة من الأخطاء اللغوية؛ الإملائية والنحوية وكل ما تشتهيه الأنفس! كل ذلك «لايف وعلى الهواء مباشرة»!!
عشرات ومئات، الآن، يصدرون أنفسهم على «فيسبوك» على أنهم «كتاب، شعراء، روائيون» لم يتموا بعد العشرين أو الثلاثين، لا مانع يا ألف أهلا وسهلا.. دع مائة ألف زهرة تتفتح، لكن ألا يدرك هؤلاء أن «الكتابة» مسئولية ومسئولية كبيرة تستلزم إعدادا وافيا وكافيا، وأنه يجب التحضر لهذا الأمر قراءة ووعيا وثقافة وبما يجعلك، ككاتب، تقف على أرض صلبة وتجعل قارئك «الحقيقى» يثق فى ما تقدمه من إنتاج، وعتبته الأولى والرئيسية، وأداته الوحيدة هى «اللغة».
لا أتصور كاتبا تجرأ على ادعاء صنعة الكتابة واتخاذها حرفة أو قرر وضع اسمه على منشور يذاع على الناس، يعرض عليهم أفكاره وإبداعه مجسدا فى نص لغوى (والله العظيم نص لغوي!) أداته الأساسية اللغة؛ ثم يقول «لست مسئولا عن الأخطاء اللغوية فى النص.. هذه مهمة المصحح»!!
لا شىء يستفزنى مثل هذه النوعية من البشر الذين يتصورون وهمًا أنهم كتاب ومبدعون. يا أخى بالله عليك، أتريدنى أن أصدق أنك كاتبٌ على الحقيقة، وأنك قرأتَ ما يكفى من نصوص واستوعبت ما يلزم من معارف لكى تمسك القلم وتكتب وأنت لديك قصور بَيِّن فى استيعاب اللغة التى تقرأ بها؟! يعنى بالبلدى سيادتك تريد أن تقنعنى أنك تكتب أدبا أو فكرا أو إنتاجا من أى نوع، وواضحٌ مما تكتب أنك لا تفهم ولا تعى منطق ولا قانون هذه اللغة التى قررتَ أن تكتب بها وتخاطب من خلالها جمهورًا، اخترتَ بكامل إرادتك أن تتوجه إليهم عبر هذا الوسيط اللغوى المكتوب وليس شيئا آخر. كيف يعني؟!!
لا أفهم كيف لكاتبٍ اجتهد فى أن يكتب نصًا أعمل فيه خياله وأنشأ شخوصه وكون شبكة السرد كيفما كانت، ثم اكتفى بهذا وتقدم به مباشرة إلى دار للنشر دونما أن يضع فى اعتباره أنه يكتب «أدبًا» أداته الأساسية والأولى «اللغة» التى يجب أن تكون فى حدها الأدنى من السلامة والاستقامة (صحيح أن من مهام دار النشر أن تقوم بعملية التدقيق اللغوى، لكن فى حدود نسبة أظنها لا تزيد على 10 فى المائة وهذه بالمناسبة نسبة كبيرة.. وأما دَور دُور النشر فى تدقيق النصوص ومراجعتها فهذا حديث ذو شجون وله محل آخر).
لكننى، فى الوقت ذاته، مقتنع تمام الاقتناع بأنه إذا لم يكن الكاتب غيورًا على نصه، يراجعه مراتٍ ومراتٍ ويستعين بمن يجبر نقصه ويقيل عثرته، ويسلمه فى صورته الأخيرة كأكمل وأحسن ما يكون، فإنه مقصر أيما تقصير، يبدو كمن صنع «تورتة» جميلة وزينها بأجمل ما يكون ثم غلّفها بورق جرائد مستهلك قذر ينفر الزبون ويجعله ينصرف عنها مشمئزا غير نادم!
هذا هو الدرس الغائب عن أذهان من يتطلعون إلى الكتابة والنشر الآن، وهم فى كل وقت وحال يتأففون من مطالبتنا لهم بالتدقيق والمراجعة والتنقيح والسلامة! إذا انحطت قيمة الإنتاج الأدبى انحطت قيمة القراءة، والعكس إذا انحطت قيمة القراءة انحطت قيمة الكتابة، هكذا يعلمنا أستاذتنا ويلفتون انتباهنا إلى أن القيمة تقتضى الجدية والتعامل باحترام مع القراءة والكتابة، ولا قراءة ولا كتابة «جيدة» فى نظرى تقود إلى فهم سليم إلا إذا توافر الحد الأدنى من المعرفة اللغوية السليمة.. أكرر السليمة، أى القدرة على قراءة وكتابة جملة عربية سليمة.. فهل هذا كثير يا عالم؟!