غاب عن دنيانا منذ أيام قليلة القائد التاريخى للثورة الكوبية وزعيم كوبا لمدة نصف قرن تقريبا ما بين انتصار الثورة الكوبية فى الأول من يناير 1959 وحتى اعتزاله العمل السياسى بشكل نهائى ورسمى فى عام 2008، الرئيس الكوبى الراحل فيديل كاسترو. وبالتأكيد فإن هناك الكثير الذى يمكن قوله عن فيديل كاسترو، ولكن ما نطمح له هنا هو أن نعطى للقارئ المصرى والعربى نبذة سريعة عن بعض مواقف الزعيم الكوبى الراحل تجاه عدد من القضايا التى تهم الشعوب العربية، وذلك من خلال استعراض مواقفه إزاء عدد من القضايا العربية الرئيسية، وليس جميعها، من خلال محطات مهمة فى مسيرة الزعيم الكوبى الراحل فى هذا الإطار.
ويكاد يتفق الجميع على أن قضية العرب الأولى والمركزية هى القضية الفلسطينية، والتى شكلت ــ ولا تزال ــ الهم الرئيسى للأمة العربية فى مجملها. وهنا يتعين تذكر مواقف الزعيم الكوبى الراحل فيديل كاسترو إزاء تلك القضية وتطوراتها والمراحل المختلفة التى مرت بها. فقد قدمت كوبا بزعامة فيديل كاسترو الدعم منذ السنوات الأولى لانتصار الثورة الكوبية للثورة الفلسطينية، سواء ممثلة فى الإطار السياسى الجامع والشامل لها، ألا وهو منظمة التحرير الفلسطينة، أو عبر دعم فصائل الكفاح المسلح الفلسطينى على تنوعها، خاصة تلك ذات التوجه اليسارى منها. وقد ارتبط الزعيم الكوبى الراحل لسنوات، بل ولعقود، بعلاقة وطيدة مع الزعيم الفلسطينى الراحل ياسر عرفات (أبوعمار).
وقد قدمت كوبا الثورة الدعم العسكرى للثورة الفلسطينية من خلال تقديم السلاح ومن خلال المساعدة فى التدريب وغير ذلك من التسهيلات ذات الطابع العسكرى. إلا أن ذلك لا يعنى الانتقاص من أهمية ودلالات الدعم السياسى والدبلوماسى الكوبى للثورة الفلسطينية على مدار السنين، وذلك فى مختلف المحافل ذات الصلة.
ففى إطار حركة عدم الانحياز، التى شاركت كوبا فى تأسيسها عام 1963، كان للزعيم الكوبى الراحل فيدل كاسترو دوره المؤثر فى الدفع بقبول عضوية فلسطين كعضو كامل العضوية فى صفوف الحركة، بالرغم من معارضة بعض الدول الأعضاء بالحركة وتحفظات دول أعضاء أخرى.
ولاحقا، وتحديدا خلال دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة فى سبتمبر من عام 1974، لعبت الدبلوماسية الكوبية دورا رئيسيا فى تأمين الدعم الدولى اللازم لنجاح القرار التاريخى بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطينى، ثم منح المنظمة وضع المراقب فى الأمم المتحدة، وهى جميعها خطوات شكلت نقلة نوعية فى التناول الدولى للقضية الفلسطينية لصالح المطالب الفلسطينية والعربية.
كذلك كان موقف الزعيم الكوبى الراحل فيديل كاسترو حاسما فيما يتعلق بتقديم الدعم السياسى والدبلوماسى والإعلامى للثورة الفلسطينية إبان الغزو الإسرائيلى للبنان فى صيف عام 1982، وما تمخض عنها من حصار بيروت ثم خروج قيادة المقاومة الفلسطينية وعناصرها المسلحة من لبنان إلى تونس، وتواصل الدعم الكوبى عقب ذلك ممثلا فى إعلان التأييد للانتفاضة الفلسطينية الأولى التى انطلقت فى عام 1987 وما تلاها فى عام 1988 من إعلان دولة فلسطين من جانب الزعيم الفلسطينى الراحل ياسر عرفات واعتراف كوبا الفورى بها وتحويل مقر بعثة منظمة التحرير الفلسطينية فى هافانا إلى مقر سفارة فلسطين، ثم دعم كوبا مجددا للانتفاضة الفلسطينية الثانية التى اندلعت فى عام 2000.
ولكن يتعين هنا التوقف عند مشهد بعينه برزت فيه قيمة ووزن جهود الدبلوماسية الكوبية الحثيثة الداعمة للحقوق الفلسطينية والعربية، وأعنى هنا على وجه التحديد المساندة النشيطة من جانب كوبا للمساعى الفلسطينية للحصول على اعتراف أكبر عدد ممكن من دول أمريكا اللاتينية بدولة فلسطين وتبادل التمثيل الدبلوماسى معها وتحويل بعثات منظمة التحرير الفلسطينية، حال وجودها فى بعض هذه البلدان، إلى سفارات لدولة فلسطين، وقد حققت تلك المساعى، بدعم فعال من كوبا، نجاحا كبيرا أفضى إلى اعتراف عدد كبير من دول أمريكا اللاتينية بدولة فلسطين.
وإذا تركنا ملف القضية الفلسطينية إلى تناول قضية أخرى تهم البلدان العربية كان لكوبا بزعامة كاسترو مواقف متميزة إزاءها، نجد أن كوبا، والتى عانت هى نفسها من حصار اقتصادى غير مشروع أدانته الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية ولجان حقوق الإنسان وغيرها من الأجهزة الأممية، ومن عقوبات أحادية الجانب من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، بل ومن محاولات تدخل أمريكية فى شئونها الداخلية بما فى ذلك ما عرف تاريخيا بعملية «خليج الخنازير» فى عقد الستينيات من القرن العشرين، حرصت على أن تقف دبلوماسيتها فى مختلف المحافل الدولية بوضوح فى وجه أى محاولات لتقنين أو شرعنة عمليات التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى، وكانت تلك الدول فى العديد من الحالات هى من الدول العربية.
وتحضرنا هنا المواقف الكوبية، تحت قيادة فيديل كاسترو، الرافضة لإضفاء أى مباركة أو شرعية على الغزو الأمريكى للعراق فى عام 2003، والإصرار على هذه الموقف والرهان على أن مثل هذا الغزو لن يحقق الاستقرار أو الخير للعراق، والتأكيد على زيف الادعاءات آنذاك بوجود أسلحة دمار شامل فى العراق أو بوجود علاقة بين العراق وتنظيم القاعدة المتهم بالمسئولية عن هجمات الحادى عشر من سبتمبر 2001 فى الولايات المتحدة الأمريكية. وحتى عقب تخلى فيديل كاسترو عن دوره السياسى، فقد تواصل هذا الموقف الكوبى المبدئى من جانب خليفته وشقيقه راءول كاسترو، عندما أدان تدخل حلف شمال الأطلسى (الناتو) فى ليبيا فى عام 2011.
كذلك عارضت كوبا بقيادة فيديل كاسترو الاتجاه لفرض أى عقوبات سياسية أو اقتصادية أو أمنية أو غير ذلك على أى دولة بهدف التدخل فى شئونها الداخلية أو دفعها لتغيير مواقف سياسية أو اختيارات عقائدية لديها. وقد شمل ذلك، مرة أخرى، دولا عربية، مثل العراق قبل غزو 2003 وليبيا قبل تدخل الناتو عام 2011 وغيرهما من بلدان المنطقة العربية خلال مراحل تاريخية مختلفة.
ويتصل بما تقدم موقف ملحوظ آخر لكوبا فى المحافل الدولية، ألا وهو رفض اتخاذ موضوعات حماية حقوق الإنسان بشكل انتقائى كمطية للتدخل فى الشئون الداخلية للدول أو للسعى لتغيير النظم السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية لتلك الدول، أى باختصار رفض الاتجاه لتسييس موضوعات حقوق الإنسان، خاصة عندما يتعلق الأمر ببلدان العالم الثالث، وركزت كوبا على رفض ازدواجية المعايير المستخدمة من جانب بعض الدول الغربية عند تناول العديد من الحالات المنفردة فى موضوعات حقوق الإنسان. وقد استفاد العديد من الدول العربية على مدار السنين والعقود من ذلك الموقف المبدئى للدبلوماسية الكوبية، كما تحالفت معها بشكل استراتيجى أو تكتيكى فى العديد من المحافل الدولية ذات الصلة مثل مجلس حقوق الإنسان، ومن قبله لجنة حقوق الإنسان، وكذلك فى الجمعية العامة للأمم المتحدة وبقية الأجهزة الدولية المعنية الأخرى.
وهكذا عرضنا فيما تقدم لعدد من المواقف الكوبية فى ظل قيادة الزعيم الكوبى الراحل فيديل كاسترو وتأثرا به، تجاه العديد من القضايا العربية، وفى المقدمة منها بالطبع القضية الفلسطينية، على أمل أن يسهم هذا الجهد التحليلى المتواضع فى جهد أكبر لتوثيق مجمل مواقف الزعيم الكوبى الراحل وبلاده إزاء القضايا العربية من خلال منهج تاريخى موضوعى يتحرى الأمانة العلمية والنزاهة البحثية ويكون موثقا قدر الإمكان.