(1)
لست ممن يقطعون علاقتهم بأى كتاب يقرأونه ويتمون قراءته وتنتهى علاقتهم به حد الفراغ منه! لا. لست من هذه الطائفة، ولا أنتمى إلى هذه الدائرة، فكل كتاب وقع تحت يدى وقرأته وترك علامة أو أثرا فى نفسى أو عقلى أو روحى لا أنساه أبدا، ويظل عالقا بذاكرتى حاضرا إذا دعا داع إلى استدعائه أو استحضار بعض أفكاره، فلا يتيه منى ولا يخذلنى أبدًا، والحمد لله على هذه النعمة!
واحدٌ من هذه الكتب التى لا أنساها كتاب «شخصية مصر»، ولا تتعجل -عزيزى القارئ/عزيزتى القارئة - فتظن أنه للعظيم جمال حمدان، فذلك له موضعه وتقديره وجماله وجلاله ونقده أيضًا، أما «شخصية مصر» الذى أتحدث عنه اليوم فللراحلة الكبيرة الدكتورة نعمات أحمد فؤاد (1924-2016)، واحدة من بنات الرعيل الأول من خريجات الجامعة المصرية، مع أو عقب، سهير القلماوى وعائشة عبد الرحمن وغيرهما.
(2)
حضور الأستاذة الجليلة - عندى - يعنى مرحلة من عمرى كانت القراءةُ فيها عبارة عن «هوس» ومتابعة مقالات الكبار فى صحيفة (الأهرام)، كانت «إدمانا لذيذا» بكل ما تعنيه الكلمة.. فاسمها وحده كان كفيلًا باقتناء وقراءة أى كتاب أو مقال وضع عليه اسم «نعمات أحمد فؤاد!».
وأما مقالاتها الرائعة فى (الأهرام) عن أساتذتها الكبار التى كانت تنشرها بعنوان (هؤلاء علمونى) كانت نافذة ممتعة وباهرة عن رواد الأدب والفكر والثقافة فى القرن العشرين..
كانت الرائدة الكبيرة قد بدأت الكتابة والنشر مبكرًا جدًا، فى الدوريات الثقافية الكبرى التى كانت معروفة آنذاك وهى ما زالت طالبة فى الجامعة المصرية. نشرت مقالاتها الأولى فى (الرسالة) و(الثقافة) و(الأدب) و(الكتاب) وغيرها من نوافذ هذا العهد المنير، ثم توطدت صلاتها بأعلام وقتها؛ أحمد حسن الزيات، عباس محمود العقاد، طه حسين، أمين الخولى، أحمد أمين، إبراهيم عبد القادر المازنى، وآخرين. أحببت هذه السيدة كثيرا دون أن أراها أو أشرف بلقائها (وقد سردتُ بعضًا من ذكرياتى عنها فى مدخل كتابى «سيرة الضمير المصرى»).
(3)
ذكرياتى مع هذا الكتاب قديمة ومتجددة.. تذكرتُ النسخة الأولى التى تحصلت عليها وقرأتها قبل ما يزيد على خمسة وثلاثين عامًا! «شخصية مصر» الذى اقتنيته فى سن باكرة (فى طبعة الهيئة العامة للكتاب أظن سنة 1989 أو 1990)، لم يكن يفارقنى طيلة سنوات ما قبل الجامعة، كنت أقرأه وأعاود قراءته لسهولته وسلاسته وغزارة مادته، واستشهاداته النصية البديعة، وروحه الطيبة المحبة والعاشقة لتراب هذا الوطن وتاريخه وتراثه وأمره جميعًا.
ولا أعلم إذا لم يكن كتابٌ مثل هذا يمكن أن يُضَّمن برامج الدراسة فى مراحل التعليم الأساسى (أو على الأقل بعضًا منه) فماذا يمكن أن يقدم للطلاب والطالبات عن مصر ولمحات من تاريخها وحضارتها؟!
ما يميز هذا الكتاب - من وجهة نظرى - مشاعر الشغف والامتنان لقيمة إنسانية «حضارية» كبرى اسمها «مصر» أو بلد ظلت الحضارة صنعته ومهنته وحرفته لآلاف السنين؛ شاء من شاء وأبى من أبى.. وهل يمكن أن أنسى ما سطرته السيدة العظيمة التى سجلت بحروفٍ من نور نصوصًا وشهادات من أجمل ما تقرأه عن تاريخ مصر الحضارى وعطائها للبشرية..
(4)
حفظتُ سطورًا وصفحاتٍ من الكتاب آنذاك، عنها أنقل ما سجلته عن مصر التى فُتن بها العالم شرقًا وغربًا وليس الغرب وحده هو الذى كتب عن مصر، فقد كتب عنها من الشرق أعلام علماء ورحالة، وأدباء، ولعل أسيرهم ذكرًا وأبقاهم أثرًا المؤرخ الفيلسوف العالم الأديب الذى أجمع الشرق والغرب على إكباره؛ ابن خلدون؛ وكتب شيخ مؤرخى الغرب «أرنولد توينبى» عن تاريخ مصر وحضارة مصر، وكتب جيمس هنرى بريستد فى مرجعه العمدة «فجر الضمير» عن عطاء مصر الحضارى والإنسانى، وكتب كابارت عن «نفائس مصر فى الفن»، وكتب وارن عن «الطب فى مصر»، وكتب إروين سد عن «قانون مصر»، وكتب كريد وكربرى عن «ديانات مصر القديمة».. إلخ.
وتقول الأستاذة فى واحد من فصول الكتاب «ولا أنكر أن منَّا من أدى الفريضة سبح وصلَّى؛ فكتب الدكتور أحمد بدوى «فى موكب الشمس»، والدكتور حسين مؤنس «مصر ورسالتها»، والأستاذ الدكتور شفيق غربال «تكوين مصر»، والدكتور صبحى جورجى عن (طب مصر)، والدكتور جمال حمدان عن «شخصية مصر»، وكان الدكتور حسين فوزى (السندباد المصرى)..
لكن مصر كانت موضوعًا لكتب ومجلدات وملاحم؛ موضوعًا للموسيقى والرسَّام، موضوعًا للشاعر والفنان، موضوعًا للتاريخ والعلم. موضوعًا للفلسفة والدين، موضوعًا للإنسان.
موضوع قديم قدم الأزل.. جديد وإلى الأبد، حين نتحدث عن عطاء مصر فإننا لا نتغيا الزهو أو الفخر، إن مصر اسم شرف لا يُكتسب بالولادة فقط، ولكن بالسلوك وإدراك القيمة، ولا نتحدث عن عطائها للسرد والتاريخ، فتاريخها مسطور ومنشور، ولكننا نتحدث عنه وعنها لنستشعر واجبنا الذى أخشى، فى زحام الحياة، أن ننساه، وإن كان هذا مستحيلًا، والاعتزاز بمصر يؤدى إلى الاعتزاز بمن تحب ومن تربطها به آصرة قربى أو وشيجة جوار.. (وللحديث بقية).