الآنسة «جى» - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:00 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الآنسة «جى»

نشر فى : الجمعة 30 ديسمبر 2016 - 9:30 م | آخر تحديث : الجمعة 30 ديسمبر 2016 - 9:30 م
وصلتنى دعوة عقد قِران لم أكن المقصودة بها. غلاف الدعوة أبيض اللون مزدان بالورود الذهبية والقلوب الحمراء والنجوم، وقد كُتِبَ على غلافه بخط رفيع وباللغة الانجليزية «Wedding Invitation» أى دعوة زفاف.
بقيت الدعوةُ على مكتبى لفترة فتراكمت عليها الأوراقُ والكتبُ حتى صنعت كومة كبيرة أخفت المظروفَ الرقيق، وكان أن قررت إعادة ترتيب المكان وإزالة ما لا حاجة بى إليه، فاحتلت الدعوة سطح المكتب وتصدرته مِن جديد. عاودت قراءة الكلمات المنقوشة عليها وتحسَّست أحرفها البارزة، وأدركت أننى احتفظت طيلة الوقت بها عمدا لا عفوا، جعلتها أمامى لسبب يتكرر ولا أتمكن من الاعتياد عليه أو تجاهله.

***

على غلاف الدعوة المصقول لم تكن هناك كلمة عربية واحدة كما جرت العادة فى الآونة الأخيرة، وقد ظهرت كلمات إنجليزية متراصة تتحدث عن الحب النقى والارتباط الأبدى والمصير المشترك. كان الغلاف مثنيا ففتحته فى فضول ــ ولم أكن قد فعلت من قبل ــ لأعثر على ورقة خفيفة بداخله، تحمل أسماء رجال العائلتين المزمع ارتباطهما. اندهشت حين وجدت الورقة مكتوبة هذه المرة باللغة العربية، وفيها أبيات شعرية تقول: دعوت أحبتى وأهل مودتى، وكل قريب يريد مسرتى، أفراحنا قد أقبلت أوقاتها، ويزيد من أفراحى وجود أحبتى.

زال عجبى من تغيُّر شكل الخطاب ولغته ما بين الغلاف والورقة تغيرا لافتا عندما وصلت إلى منتصفها، وطالعت الألقاب التى سبقت أسماء الداعين إلى حفل الزفاف، كان هناك: «الحاج» فلان و«المعلِّم» فلان و«السيد» فلان. كلهم ينتمى إلى عائلة واحدة والانتماء الأكبر إلى المكان يشير إلى قبيلة من قبائل الصعيد، وتلك فى مُجملها مُعطيات ومُفردات تتواءم مع استخدام العربية الفصحى إلى حد بعيد. ما بين الألقاب واسم القبيلة والتمنيات بزواج مبارك وتقديم المشيئة الإلهية والتعبير عن الفرح والحبور شعرا، سارت بى الورقة على ما يرام وعلى أفضل ما يكون. ظللت مُنتعِشة حتى وصلت إلى نهايتها، حيث يأتى اسما العروسين متقابلين، فعاودنى العجب؛ إذ قرأت أن محمدا سيتزوج مِن الآنسة «جى»، وجى ذاتها لم تكن مكتوبة بالعربية بل «G»، حرف وحيد لا قبله ولا بعده.

لا أعرف إن كانت الآنسة «جى» هى التى اختارت طريقة كتابة اسمها، أو أن العائلة هى التى تولت مسألة الاختيار، لا أعرف أيضا إن كانت التقاليد التى تحكم العائلتين تقتضى إخفاء اسم العروس عن المدعوين وتُحَبِّذ الإشارة إليها بحرفٍ أو حتى بنقاط متجاورة، لكنى أعرف بالتأكيد أن ثمَّة أساليبَ عديدة يمكن استخدامها فى إطار اللغة الأم التى ننطق بها، وأن هذه الأساليب تفى تماما بالغرض، اللهم إلا إذا رأت العروس أو العائلة أن الوجاهة تقتضى استخدام الحرف اللاتينى.

***

حضرت منذ أيام قليلة واحدة من الاحتفاليات التى تقام بمناسبة اليوم العالمى للغة العربية، كانت الاحتفالية فى معهد المخطوطات العربية الذى أنشىء عام ألف وتسعمائة وستة وأربعين. سمعت الكلام منمقا متدفقا ومحزونا أيضا؛ اللغة العربية وجمالها ورونقها وعظمتها، وما تواجه اليوم من أزمات يصنعها أهلها، تبنتهم اللغة على مدى قرون وأهملوها على مدى عقود حتى كادت تكون فى يومنا هذا لقيطة.

سمعت كلاما كثيرا لكنه فى معظمه ليس جديدا، الأزمةُ مَعروفةٌ واضحةٌ لكل ذى عينين وأذنين وذائقة لا تزال سليمة، جزءٌ كبيرٌ مِن هذه الأزمة يتعلق بالآلة الإعلامية التى تُهمِل وتتجاهل وتخطئ وتتمادى فى الخطأ ولا تسعى فى أغلب الأحيان إلى التصويب ولا تجد فى أخطائها سوءا ولا تراها مدعاة لخجل أو اعتذار، كما أنها لا تسعى لاستدراك واقعها الأسيف. حين تحدث ضيف من ضيوف المعهد عن جماليات الحرف العربيّ وعن المعارض التشكيلية التى تقوم على فن كتابته، تذكَّرت على الفور الآنسة«G»: كانت الدعوة لتبدو مختلفة لو فكرت فى طباعتها بخطٍّ مِن الخطوط العربية البديعة.

كرَّمَ المعهد اثنين مِن علماء اللغة وكبارها الدكتور حسين نصار والدكتور حسن الشافعى، ولكليهما باعٌ فى اللغة وأصولها وعلومها، ولكليهما إسهامٌ يحظى بعميق التقدير والاحترام. تلقيت جالسة فى مقعدى هجاء لا يقصدنى شخصا، بل يقصد جموعَ الأطباءِ والمتخصصين فى العلوم الطبيعية على تنوعها وأنا مِنهم؛ إذ هُم مقصرون فى حقِّ اللغة العربية، ناكصون عن تطويرها فى حقول معرفتهم، متقاعسون عن بذل الجهد. ذكر الجالسون على المنصّة بيت الشعر: العجز أن تهمُّ ولا تفعل والهمُّ ناشبٌ فى الضمير.

***

وسط تصفيق الحضور وكلمات المُكرَّمَين الجليلين، عاودتنى الأمنيةُ التى ذكرتها هنا منذ أسابيع، أكررها اليومَ ونحن على أعتاب العام الجديد؛ ماذا لو قام مَجمَعُ اللغة العربية بمبادرة عقدِ دوراتٍ، يحضرها المهتمون بتحسين علاقتهم باللغة العربية وامتلاك ناصيتها، لا على مستوى الإعلام والصحافة فقط بل فى شتى مجالات المعرفة؟ ربما تكون الأمنية بسيطة لكنى أظنها خطوة تؤسس مُستقبلا لخطوات أخرى أكثر اتساعا وتأثيرا. ربما تتحول أسماءُ متاجرنا وأسواقنا إلى العربية، وتنقلب لافتاتنا وإعلاناتنا إلى العربية، وتتمسك العروس بأحرف اسمها: جميلة أو جيهان أو جيداء أو جليلة.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات