نشر مركز الحوار مقالا للكاتب جمال برغوتى، وهو مهندس متقاعد تلقى تعليمه الجامعى فى جامعات أمريكية ويحمل الدكتوراه بناءً على بحث ميدانى اقتصادى اجتماعى فى روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتى. وعمل كمهندس استشارى فى أقطار منها مصر وبريطانيا والنرويج وفيتنام وماليزيا وروسيا، وهو مقيم حاليا فى ولاية تكساس الأمريكية... نعرض المقال فيما يلى:
تنبؤات من كل صوب... يقال إن مارك توين عندما سمع بإشاعة وفاته ردّ بقوله إن الخبر مبالغ فيه. وهكذا «كذب المنجّمون ولو صدقوا» عن تنبؤاتهم بانهيار أمريكا ومنهم من حدّد السنة واليوم والساعة.
صدر فى 2008 كتاب The Fall of the US Empire–And Then What للكاتب النرويجى يوهان جالتونج الحائز على جائزة نوبل والذى تنبأ بانهيار الاتحاد السوفييتى فى 1980. وقد استضافته أيمى جوودمان على برنامجها فى NPR فى يوليو 2010 وأكد فى المقابلة على أن الانهيار سوف يحدث فى 2020 بدلا من 2025 كما ورد فى الكتاب بسبب وصول جورج بوش الابن للسلطة. ومن الأسباب التى أوردها لهذا الانهيار تكاليف الحروب والتدخل فى أمكنة كثيرة فى العالم وقواعد تغطى 40% من دول الأرض.. ففى العراق وأفغانستان مثلا حيث خصص للأولى 747 مليار دولار حتى ذلك التاريخ و299 مليار دولار للثانية بتكلفة 136 مليارا كل عام. وهذا مبلغ يقدر بـ2 ترليون دولار مع نهاية 2020 أى ما يعادل رحلة ذهابا وإيابا للشمس التى تبعد عنا 91 مليون ميل لو جعلنا المبلغ فى سلسلة متصلة من الدولارات. ولكن الكاتب استدرك نبوءته بقوله إن ازدهارا واسعا سيعقب الانهيار مثلما تبع انهيار الإمبراطورية البريطانية والإسبانية والبرتغالية...
عوامل هدّامة
دراسات كثيرة تؤكد على أن هناك ما يهدد البنية الأساسية التى قامت عليها أمريكا منذ الاستقلال. وقد ذكر الرئيس بايدن فى حفل تنصيبه على الأقل خمسة عوامل خطيرة ولكن نحصرها فى ثلاثة:
أولا: فجوة اللامساواة التى تزيد عن ثلاثة أضعاف الفجوة فى اليابان مثلا.
ثانيا: تآكل الديمقراطية تحت وطأة المحسوبية والمساهمة المالية فى الانتخابات.
ثالثا: فساد وإفساد متعمّد للمؤسسات التى تحمى من الفردية والتفرّد بالقرار والحكم.
1. اللامساواة
يقول Nick Hanaur الملياردير إن شريحة
الـ1% التى ينتمى إليها قد استحوذت على 50 تريليون دولار من الـ 90% من الشعب ووصف الفجوة بين الفقر والغنى بأنها تهدد أمن البلد وكتب مقالا عنوانه «قبل أن يطاردوننا بالمذارى (والفئوس)» كناية عما جرى فى الثورة الفرنسية منذرا ومحذرا. وقد صنّف Ray Dalio الفجوة بأنها حالة «طوارئ قومية».
وربما يقول قائل: «وما المشكلة فالفرص أمام الجميع» والشاطر بشطارته!» ولكن هذه الفجوة كان لها عواقب وخيمة على الناس والمجتمع وفى الماضى عندما خرجت عن السيطرة قادت إلى حروب مدمرة كما قال توماس بيكيتى فى كتابه المزعج للرأسمالية وعنوانه «رأس المال فى القرن الواحد والعشرين».
2. تآكل الديمقراطية
كانت هذه المسألة على رأس جدول برنى ساندرز المرشح الديمقراطى فى حملته الانتخابية ودعا إلى فك الارتباط بين سطوة المال وإخراجه من عملية الانتخابات فى كل مراحلها. وهناك عدة ملاحظات يجب الإشارة إليها:
دعم المرشحين بالمال كان يجرى بخجل منذ استقلال أمريكا وتحت سقف منخفض وقد لاقى الرئيس جيمس جارفيلد حتفه على يد ناخب ادعى أن الرئيس وعده بتعيينه فى منصب عال فى الحكومة مقابل دعمه فى الانتخابات ولم يفعل فقتله ضُحى يوم من أيام يوليو 1881.
وبين 1890 و1943 كان سقف التبرعات 100 دولار وفى 1971 أضافت مصلحة الضرائب خانة لملئها بعلامة (ضرب) لكل من يرغب بخصم دولار واحد لحساب الانتخابات بغض النظر عن الحزب.
ولكن بعد فضيحة ووترجيت فى 1974 خرج الحصان من الإسطبل والحبل على رقبته فسقف التبرعات وصل إلى 10 ملايين فى المرحلة الأولى و20 مليون للمرشح الرسمى للرئاسة و100 ألف لدعم مرشح مجلس الشيوخ.
وفى 2014 انهار السقف وتطايرت كل الكوابح والشروط والضوابط فانتهت العملية بإعلان القدس عاصمة أبدية لمن يدفع أكثر!!
ويبدو الآن أن دور الشركات الكبرى فى الحكومة ومراكز صناعة القرارات المصيرية يطغى على ما وصفه توماس جفرسون «تأسست الحكومات لتعدل بين الناس كممثل لهم تحكم برغبتهم وموافقتهم» ولكن وصل الأمر الآن إلى أن يدعى جيف بيزوس للمشاركة فى جلسات البنتاجون وهو لا يمثل لا موظفى شركة أمازون التى يترأسها ولا حتى زوجته التى طلقها. فأين ممثلو العمال والأطباء والمعلمين والمزارعين؟
3. تآكل المؤسسات وتهاوى الحدود بين السلطات
انخفضت الثقة فى المؤسسات الحكومية ــ وخصوصا بين الشباب ــ تحت الـ50% وهناك عدة مؤشرات وصفارات إنذار ولكن يبدو أن «السوسة» تنخر بتسارع مخيف.
تبدو المؤسسات رخوة ومهلهلة وفى بنيتها شقوق وحولها يدور شكوك كثيرة كتب عنها المؤرخ الاسكتلندى فى هارفارد «نيال فيرجيسون» حين نشر كتابه الذى ينعى فيه المؤسسات التى دورها المحاسبة والتدقيق والمساءلة وضبط إيقاع الحكومة فى كل جوانبها.
يقول رونالد نيومان رئيس الأكاديمية الأمريكية للدبلوماسية إن ما جرى على مؤسسة وزارة الخارجية يمثل هدم ما بُنى فى 100 سنة من عهد تيد روزفلت... وتحت بومبيو تم تعيين 42% من السفراء حسب درجة ولائهم للرئيس وليس الكفاءة أو الخبرة.
دائرة العدل أصبحت تحت ترامب أداة لخدمته وتمرير نزواته وقراراته بتلبيسها لباس التقوى والقانون ونظرة سريعة على العناوين فى مجلة أتلانتيك تكفى لبث الرعب والقلق مثل «الرئيس يكسب حربه ضد المؤسسات». باستثناء محامٍ أو اثنين فإن بقية الدائرة «خمدوا» وطأطأوا رءوسهم بحجة أنهم يعملون لدى الرئيس وفى خدمته.
سطوة نظام «اللوبى» وانتشاره حتى أصبح صناعة و«بزنس» يستقطب خبراء من أعلى المستويات. يقول روبرت قيصر أحد محررى الواشنطن بوست السابقين فى كتابه «So Damn Much Money ــ The Triumph of Lobbying and the Corrosion of American Government» يقول إن ضباطا ودبلوماسيين وسفراء وقضاة اتخذوا من «اللوبيات» مهنة بعد خروجهم من مراكزهم الحكومية واستخدام شبكات تواصلهم فى خدمة زبائنها من شركات وحكومات ومراكز قرار.
وكل هذا ليس بالجديد وليس حصرا على دول العالم الثالث، أما أن يزدهر وفى حماية القانون وفى أمريكا بالذات فهذا لا يمكن أن يبشر بخير. ألم يخرج روبرت مكنمارا من وزارة الدفاع ليصبح على رأس إدارة البنك الدولى؟ ألم يشغل جون دولاس وزيرا للخارجية ويشغل أخوه آلن وكالة المخابرات الأمريكية فى عصر أيزنهاور «وبعد الدوام» لمدة 38 سنة كانا على معاش شركة اليونايتد فروت... والتى أصبحت شركة تشيكيتا براندس انترناشنال... وتتحكم فى جمهوريات الموز... والوضع تضاعف وتقنّن وتفنّن عُتاتُه باستعمال التكنولوجيا لتوسيع نشاطاتهم.