بعد أن قاربت الحرب الإسرائيلية على غزة على نهاية شهرها الثامن، أصبح الوضع «كارثيا»، بحسب المفوضية السامية لحقوق الإنسان. أكثر من خمسين ألف فلسطينى بين شهيد ومفقود. أكثر من ثمانين ألف جريح. أكثر من مليونى نازح. نقص حاد بالمواد الغذائية والمياه النظيفة والأدوية يُنذر بالمزيد من المآسى فى غزة المحاصرة.
بدأ الصراع عقب إعلان المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان سعيه للحصول على مذكرات اعتقال بحق كل من رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف جالانت من الجهة الإسرائيلية، والقادة فى حماس يحيى السنوار ومحمد الضيف وإسماعيل هنية من الجانب الفلسطينى، وذلك بتهم عديدة منها ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية واستعمال المجاعة كسلاح حرب.
أدى هذا الإعلان إلى موجة غضب أمريكية ــ إسرائيلية، واعتبرت تل أبيب أن التهم الموجهة ضد نتنياهو وجالانت وضعتهما فى الخانة نفسها مع قادة حركة حماس التى لطالما وصفوها بالإرهابية، الأمر الذى جعل إسرائيل تلوّح بخطوات انتقامية ضد المحكمة الجنائية وأفرادها.
لاقى البيان الصادر عن المدعى العام كريم خان استنكارا من المسئولين الأمريكيين حتى وصل الأمر ببعضهم إلى حد تهديد خان والتلويح بالعقوبات ضده وضد أى فرد من أفراد المحكمة الجنائية يُمكن أن يُصدر أمرا باعتقال أى من القادة الإسرائيليين، على أن تصل هذه العقوبات إلى حد مصادرة الأملاك أو الأموال فى الولايات المتحدة أو منع السفر إليها.
وكان بعض أعضاء الكونجرس الأمريكى ومجلس الشيوخ قد كتبوا رسالة إلى المدعى العام، تزامن نشرها مع إطلالة كريم خان عبر شاشة محطة «سي. إن. إن» وتنص على الآتي: «استهدفوا إسرائيل وسنستهدفكم. إذا مضيتم قدما فى الإجراءات المشار إليها فى التقرير، فسنتحرك لإنهاء كل الدعم الأمريكى للمحكمة الجنائية الدولية، ومعاقبة موظفيكم وشركائكم، وحظركم وعائلاتكم من الولايات المتحدة الأمريكية».
بدوره، صرّح خان فى المقابلة المذكورة بأن بعض القادة تحدثوا إليه بشكل صريح بأن «هذه المحكمة بُنيت من أجل إفريقيا ومن أجل السفاحين مثل بوتين»، فهل المقصود من هذه العبارة القول إن الولايات المتحدة وحلفاءها من «دول ديموقراطية« لا يخضعون للمحاسبة ولا للقوانين الدولية.
تعالت الصرخات الأمريكية والإسرائيلية ضد المحكمة الجنائية الدولية بحجة أنه ليس لهذه الأخيرة أى صلاحية بالنظر فى القضية التى تقدمت بها دولة جنوب إفريقيا، وذلك كون المحكمة هذه تعتبر مكملة لاختصاص المحاكم الوطنية وبأن فلسطين لا تشكل دولة بحد ذاتها وبذلك يرجع الاختصاص للمحاكم الإسرائيلية. كما أن كلا من إسرائيل والولايات المتحدة ليستا طرفا فى نظام روما الأساسى، وبذلك لا يمكن أن تقوم المحكمة الجنائية بملاحقة أى مواطن أمريكى أو إسرائيلى.
فى فبراير 2021 تم البت بهذا الأمر، عندما أصدرت الدائرة التمهيدية الأولى قرارا بصلاحية المحكمة الجنائية بالنظر فى الجرائم الواقعة على الأراضى الفلسطينية (قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية)، بعد تحقيق دام حوالى الأربع سنوات من 16 يناير 2015 إلى 20 ديسمبر 2019، كون دولة فلسطين تُعتبر طرفا فى نظام روما الأساسى بعد أن وقّعت عليه وأصبح نافذا عام 2015.
أما القول بأن المحكمة الجنائية مكملة للمحاكم الوطنية، فهذا من بين أهم السمات التى تُميّزها والتى تُعبّر عن احترام سيادة الدول على أراضيها. غير أن المادة 17 من نظام روما الأساسى المتعلق بالمقبولية تهدف إلى وضع قاعدة صريحة للفصل فى مشكلة تنازع الاختصاصات بين المحكمة الجنائية من جهة والمحاكم الوطنية من جهة أخرى، فلقد نصت هذه المادة على الآتى: «الدعوى لا تُقبل أمام المحكمة الجنائية الدولية فى ثلاث حالات:
< إن كانت السلطات الوطنية فى صدد النظر بالدعوى.
< إن كانت السلطات الوطنية قد باشرت فعلاً بالتحقيق بالدعوى واتخذت قرارا بعدم المقاضاة.
< إن جرت مقاضاة فعلاً على الصعيد الوطنى.
وبرغم كون إسرائيل ليست طرفا فى نظام روما الأساسى، إلا أن محاكمة مرتكبى الجرائم من الإسرائيليين يبقى ممكنا حالها كحال روسيا التى لا تعترف بسلطة هذه المحكمة ومع ذلك تم إصدار أوامر اعتقال بحق رئيسها.
تواجه المحكمة الجنائية لحظة صعبة من الضغط والتهديد ولا سيما من الجانب الأمريكى الذى لطالما ساعد فى حماية إسرائيل من عواقب أعمالها، ولكن للمرة الأولى تبدى للمجتمع الدولى أن المدعى العام كريم خان مصممٌ على السير فى الدعوى برغم التهويل من هنا وهناك، وبالتالى صار إصدار أوامر الاعتقال بحكم المحسوم إلا إذا طرأ أمر ليس بالحسبان.
ومع صدور هذه الأوامر، تكون الدول الـ124 الموقعة على نظام روما ملزمةٌ بالتقيد به، وفقا للمادة 86 من نظام روما الأساسى التى تنص على الالتزام العام بالتعاون مع المحكمة، وبالتالى فإن خطورة الأمر بالنسبة لإسرائيل أن قادتها سيُصبحون ملاحقين ومهددين بخطر الاعتقال وتقديمهم للمحكمة الجنائية الدولية فى حال أقدموا على السفر إلى أى دولة موقعة على هذا النظام وبينها الدول الأوروبية الحليفة لإسرائيل. وبذلك تصبح هذه الدول الأوروبية أمام أحد خيارين: الأول، تنفيذ قرار المحكمة باعتقال الأشخاص الصادرة بحقهم أوامر اعتقال. الثانى، نقض نظام روما الأساسى الذى لطالما نادت هذه الدول بوجوب التقيد به وبخاصة أنها دعمت قرارات هذه المحكمة فى حالات سابقة.
فهل ستنجو إسرائيل مرة أخرى من العقاب أم سنكون أمام مشهد دولى جديد فنرى الدولة المتربعة على عرش النظام العالمى حاليا عاجزة عن مساعدة حليفتها المُدلّلة والتى قد تجرها معها إلى المحاكم الدولية نتيجة الدعم السياسى والعسكرى غير المشروط لها؟
رواد منذر
باحث لبنانى متخصص بالقانون الدولى العام
موقع 180