أَلفُ زاويةٍ وَوَجه - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:16 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أَلفُ زاويةٍ وَوَجه

نشر فى : السبت 31 أغسطس 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 31 أغسطس 2013 - 8:00 ص

لا أظننى تَلَقَّيت فى أى فترة سابقة مِثل هذا الكَمّ العجيب من الصور؛ الذى صرت أتلقاه يوميا على مدار الأربع والعشرين ساعة. صورٌ تنهمر من شاشات التليفزيون، وأخرى تَحتَلُّ مساحات كبيرة من الصحف الورقية، وأعدادٌ لا حصر لها من التسجيلات والأفلام القصيرة، تُوضَعُ على المواقع الإلكترونية ويتم تجديدها لحظة بلحظة، فلا تترك للمتابعين فرصة لإغماض الأعين والتقاط الأنفاس.

 صورٌ لحروب وقتلى ومصابين، صورٌ لمسيرات وجيوش ودبابات، وأخرى لمُسَلَّحين وعُزَّلٍّ مسالمين. صورٌ لأشخاصٍ مهمشين جائعين، وآخرين يُثقِلُهُم الترفُ وتنوء وَجَنَاتُهم بحُمرَة الصحة والوَفرَة. مِن الصور ما يجتذب الأنظار حقا، وما يمر بها دون أن يترك أثرا يُذكَر.

●●●

توقفت لدى بعض اللقطات المنشورة خلال الشهر الماضى، وقد جدت فى تناقض المشاعر والأفكار التى تثيرها طرافة، وفى بعض المرات غرابة وجنوح. نشرت إحدى الصحف اليومية على سبيل المثال صورة كبيرة لمجموعة من الجنود فى سيناء، وقد اتخذوا جانبا من الطريق وسجدوا على الأرض يؤدون الصلاة، بينما لاحت فى الخلفية معداتهم القتالية، وسياراتُهم مفتوحة الأبواب. أَزعُم أن مُتَصَفِّحَ الجريدة فى مجتمع شرقيّ مُتَدَيِّن سوف يستقبل هذه الصورة بكثير مِن الراحة والاطمئنان؛ فالجنود على حالتهم تلك أتقياءٌ مؤمنون، لا يشغلهم شاغلٌ دنيويٌّ عن العبادة والصلاة، لكن الناظر إلى الصورة نفسها فى مجتمع غربيّ دَرَجَ على الالتزام بقواعد واضحة صارمة، قد يجد هؤلاء الجنود مقصرين، مهملين، تنبغى محاسبتهم بحسم وشدة على تخليهم عن واجبهم العسكرى، وتراخيهم أمام اعتبارات الأمن والسلامة. مَثَل هذه الصورة أخرى؛ لجنديٍّ فوق دبابة، يُفتَرَضُ به الانتباه لما يدور فى منطقته، لكن الجنديّ لا ينظر أمامه ولا من حوله بل ينظر إلى مصحف فى يده، ويبدو إنه يقرأ فيه باستغراق.

صورٌ ثلاث من اعتصام رابعة العدوية الشهير الذى تم فَضُّه فى منتصف الشهر الماضي؛ إحداها لحوض سباحة مملوء بالمياه، يبدو على الأطفال السابحين فيه المرح والانسجام، وأخرى لنساء تخبزن الكعك والأقراص بمناسبة العيد، وثالثة تتألف من مشهد طويل لأشخاص يحملون جثثا ملفوفة فى أقمشةٍ مُلَطَّخَةٍ بالدماء. جلبت الصورة الأولى إلى أذهان المتعاطفين مع الاعتصام؛ شيئا من التباهى والبهجة، بينما استدعت إلى أذهان المعارضين جالونات المياه الضائعة والضغط المتزايد على نظام الصرف الصحيّ. أثار الكعك والبسكويت إعجاب فريق المتعاطفين بقدرة أصحاب الاعتصام على الصمود والتحدّى، لكنه أثار فى الوقت نفسه سخرية المعارضين، واشمئزازهم من فكرة بناء الأفران، وتجهيز العجين، وتلويث المكان. فَسَّرَ الفريقُ الأول ـ الرافض لفض الاعتصام ـ مشهد الجثث المَحمولة بأنه مَحضُ محاولةٍ يائسةٍ من المفضوضين؛ تهدف إلى إبعاد أبدان ذويهم وزملائهم عن النيران، وعن مسار البلدوزر الداهس للخيام والأغراض، أما الفريق الثانى ـ الداعى لإنهاء الاعتصام ـ فقد فَسَّرَ المشهد بأنه مؤامرةٌ خبيثة؛ يهدف المفضوضون من ورائها إلى إخراج الجثث التى قتلوا أصحابها، ونسبتها إليهم، ومِن ثَمّ استغلالها طمعا فى استدرار التعاطف.

●●●

صورة مدهشة لا تنتمى إلى المشهد المصريّ بحال، نشرتها مجلة العربى الكويتى، وتَصَدَّرَها المُمَثِّلُ الأمريكيّ فورست وايتكر. الصورة جماعية، بها عدد كبير من الشباب والشابات والأطفال أصحاب البشرة السوداء. أحصيت فيها ما يزيد على الثلاثين فردا، وتوقفت أمام وجوههم التى حملت جميعها تقريبا علاماتِ الضِيقِ والغضب، ظهرت شفَاهُهُم مزمومة، وجباههم مُقطبة، وقد بدا بعضهم بائسا مُحبطا، بينما طأطأ الكثيرون رءوسَهُم أرضا، ولم ينظروا ناحية الكاميرا التى التقطت الصورة. الضاحك الوحيد تقريبا كان الممثل المعروف؛ الذى تقول عنه المجلة إنه قدم إلى أوغندا سفيرا لمنظمة اليونِسكو التابعة للأمم المتحدة. هدف الزيارة الذى أعلَنته المُنَظَّمَة الدوليّة العريقة؛ هو رفع الوعى العالميّ بالمهام الإنسانية التى تقوم بها فى شتى بِقَاع الأرض. الناظر إلى ابتسامة المُمَثِّل لن يرى سوى رجل خير، ينتصر للفقراء والمحتاجين ويمنحهم وقتا ثمينا ورعاية، أما الناظر إلى عشرات الوجوه المتجهمة من حوله؛ فسوف يرى دليلا لا يحدوه شك على مشهد تمثيليّ مُصطَنَع ومُزعج؛ لا يُرَحِّب به الواقفون، ولا يحبذون المشاركة فيه.

●●●

الصورة دائما واحدة، لكن لها من الوجوه ألف وجه ووجه. الألوان واضحة، والأشكال ثابتة، أما المعنى فقد ينقلب إلى النقيض. قد تُستَخدَمُ صورةٌ ما باعتبارها دليلا صادقا لا يكذب ولا يَتَجَمَّل، بينما تصبح فى عرف آخرين تشويها متعمدا للحقائق. قد لا يُرَى منها سوى السطح، وقد ينفذ رائوها إلى أعماق متباينة. نرى ما نرى وفقا لمشاعرنا وأهوائنا، واعتقاداتنا، وما بين رؤية الصورة واستقبال العقل لها، ثم ترجمتها إلى معنى صريح، توجد مسافة شاسعة مليئة بالألغام.

 

طبيبة وكاتبة

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات