كان الطقس بديعًا، والسعادةُ تغمر الكونَ؛ العصافير تغرد بلا حساب، والورود تنشر أريجَها بين الأنفاس، والهواءُ يتحرك دون مُسائلة، ويجوب الأرجاء بغير مُعوِّقات.
جذبت عزيزةُ يدَّ أبيها؛ توقظه مِن شروده في بهاء اللحظة، وتنبهه إلى مرورهما بالدكان الصغير الذي تراصَّت أمامه عديد المُغريات؛ أنواعٌ مِن الشوكولاته والبسكويت؛ مَحلِّية ومِستوردة، صناديق كرتون مُكتظَّة بأصناف مِن المِقرمشات، ثم ثلاجةٌ رأسية تحوي عصائر ومياه غازية ذات ألوان مُبهجة وزجاجات ماء، وأخرى أفقية حافلة بالأيس كريم؛ أكوابًا وأقماعًا، وعلبًا عائلية ضخمة، تحوز مكانة راقية في الحياة.
***
اتجهت عزيزة نحو أكياس الرقائق المَصنوعة مِن البطاطس والذرة، واحتضنت واحدًا كبيرًا عليه كلمة انجليزية غريبة. حاول أبوها أن يثينها عن القرار مُلتقطًا كيسًا أصغر حجمًا، لكن عزيزة مطَّت شفتيها الورديتان وتجهَّمت وبدت على وشك البكاء، وحين أصر على موقفه، تناولت مِنه الكيس بعصبية وألقته أرضًا.
أمام الرفض القاطع، لم يكُن أمامه سوى حملِها مَكسورة الخاطر، مع وعد أكيد بشراء ما هو أفضل مِن الطعام المَحفوظ الذي لا قيمة غذائية له ولا نفع؛ كهذا لقنته زوجتُه، وقد حفظ منها الدرسَ، وتخفّى وراءه كلما عجز عن إيجاد مَخرَج. لم تبكِ عزيزة، بل أنصتت لما قال، فابتسم مُهنئًا نفسه؛ لا أروع مِن نزهة يصطحب فيها ابنته الصغيرة، حتى مع تعاقُب المُنغصات؛ تلك التي تبدأ في العادة برفضه شراء لعبة جديدة، وصولًا لامتناعه عن جلب ما تحب مِن مأكولات ومشروبات.
***
على الناصية المُقابلة لسوق خضروات قديم، ظهر تجمُّع مِن العربات اليدوية ذات العروق الخشبية المُتآكلة؛ إحداها لبائع التين الشوكي، وأخرى عليها كومات مِن الموز، والثالثة وقف أمامها شابٌ يمسك بمروحة مِن الريش، يحركها جيئة وذهابًا؛ لتشعل جمرات الفحم تحت أكواز الذرة.
يألف أبو عزيزة هذه العربات منذ أيام الطفولة، أحيانًا ما تختفي إحداها لتحل محلها أخرى بحسب اختلاف الفصول؛ يذهب التين لتزدهر البطاطا، أو يغادر الوالد الكبير بالذرة، فيجيء الولد بالدوم والحرنكش؛ في الأحوال كلها العربات حاضرة، تواكب المواسم وتميزها عن بعضها. اتسعت منه الابتسامة الخفية؛ إذ لاحت له الفرصة للوفاء بالوعد، الاختيارات متوفرة، والنهار يشع التفاؤل في القلوب.
***
"كوزان لو سمحت". أصدر أبو عزيزة الأمر بفخر، فعاجله البائع: "ستة جنيه". صمت كأنه تلقى طعنة للتو. تذكر أيام الطفولة التي ولت، حين كان يتحصل على كوز الذرة بخمسة وعشرين قرشًا فقط. مع الوقت تضاعف السعر فصار الكوز بنصف جنيه، ثم قامت القيامة فأصبح بجنيه كامل، والآن؟!. "واحد صغير فقط". رد البائع بنفاد صبر: "ثلاثة جنيه". سمع نداءً قريبًا، يعلن بلا حياء أن طبق التين بعشرين، فأدرك ألا فصال سيجدي، ولا استعطافات قد تنفع.
***
أخرج الجنيهات صاغرًا وفي رأسه تلمع أفكار شريرة، جاهد كي يطردها مُستعيذًا مِن الشياطين، ومِن أهل الشر والضلال، مُؤكدًا لنفسه أن البلد فقير، وأن حاله مِن حال الناس جميعًا؛ لكن حبات التين والبطاطا وكيزان الذرة المشوية التي لم تكن لتستعصي على متوسطي الحال، ظلت تؤرقه بلا هوادة.
العربة الخشبية لم تتغير، ولا بدل صاحبها جلبابه، ولا استعاض عن الريش بآلة إلكترونية، لكن الكوز صعد إلى مصاف النفائس من الأشياء. كان طعامًا خفيفًا لطيفًا، يتناوله عامة الناس بين الوجبات، فإذا به يتنصل من ماضيه ويلتحق بركب الرفاهيات القابلة للنسيان.
***
راوده مشهد عربة البطاطا التي أحيانًا ما يستبقها هي الأخرى لقب "كوز"؛ طالما اجتذبته في الشتاء، ومنحته الطاقة بلا مقابل يُذكَر، وأعطته الأدخنة المتصاعدة منها دفئًا مُضاعفًا لذيذًا، لكنه سرعان ما استدعى المتغيرات التي حتمًا أصابتها هي الأخرى؛ فنحى المشهد عن ذاكرته المُثقلة وآثر السلامة.
***
لن يقول أبو عزيزة إن الكوز في المعاجم العربية هو إناء يشبه الإبريق، له أذن أو عروة، يصنع من الفخار أو غيره؛ ليُشرَب فيه أو يُصَبُّ منه، لن يقول إن كوز الذرة هو سنبلها؛ والجمع أكواز أو كيزان. لن يقول أيضًا إن كلمة "كوز" قد لا تحمل من الرشاقة والأناقة ما يسمح لها بالاستمرار على ألسنة الناس لزمن قادم، خاصة مع تحول الملوخية إلى Green soup كي تلائم ذوق ومكانة آكليها الجدد. ربما يتغير كوز الذرة بدوره إلى "باتون" ذرة، ويصبح كوز البطاطا "باتوناطا". سيكتفي أبو عزيزة بأن يتناول في كفيه الورقات الخضراء التي دفن فيها البائع كوز الذرة، بينما عزيزة تتقافز متلهفة للحصول عليه. سيخرجه ويطيل النظر في حباته التي لا يميزها شيءٌ على الإطلاق.
***
في نطة بارعة ودقيقة تتمكن عزيزة من خطف الكوز، وتنقض عليه بأسنانها الصغيرة التي لا تزال في طور التبديل والإحلال، تأخذ قضمات متتالية تبتلعها دون مضغ، فيما يدندن أبوها بلا تفكير: "كوز المحبة اتخرم"، متخيلًا نهارات مُقبلة يخرج فيها مع عزيزة. نهارات عزيزة.