لا تزال الأصوات التى تطالب بالتوافق، والبحث عن المشتركات، وبناء التفاهمات بين القوى السياسية محدودة إذا قورنت بالأصوات التى تبشر بالصدام والتنافر.
هناك حالة من الترصد، وإثارة الجدل حول قضايا أبطالها الأساسيون شخصيات سجالية مغمورة على صعيد الانجاز السياسى، كل بضاعتها إثارة الاتهامات، وتقليب المختلفين على بعضهم بعضا. المطلوب أن نقول لهذه الأصوات كفى، ونقدم أفكارا تساعد على بناء التوافق فى مجتمع يعتصره الخوف من المجهول، وتسوء أحواله المعيشية، ورغم ذلك تهيمن عليه النقاشات الساذجة من المايوه إلى تهنئة المسيحيين بأعيادهم مرورا بالموقف من تداول الخمور، وهى مساجلات ليست جديدة. إذا عدنا إلى الذاكرة سنجدها مطروحة منذ سنوات، ولم تخمد، ولن تزول، طالما أن هناك أشخاصا ــ وهم فى كل المجتمعات بالمناسبة ــ يزايدون، ويتطرفون، ويتنطعون، ويرون فى التشدد جزءا من هويتهم، وبطاقة التعارف التى يتقربون بها إلى الجماهير. الأنظمة السياسية الحديثة تُبنى بالمشتركات وليس بالاستقطاب. إذا أمعنا النظر فى التفاعلات السياسية سوف نجد قضايا لا يحتاج التوافق عليها إلى انسجام ايديولوجى، بل إلى رغبة مشتركة فى تجاوز العثرات والمنحيات. فى المقال السابق (17 ديسمبر) دعوت الإسلاميين والعلمانيين إلى التوقف عن الشغب السياسى والانتقال إلى بلورة سياسات عامة، أطرح اليوم عينة منها.
(1)
المسألة الأولى هى المواطنة، بوصفها حقا لكل مصرى بصرف النظر عن الاختلاف فى اللون أو الدين أو الجنس أو النوع أو المكانة الاجتماعية. هذه القضية تطورت فكريا على صعيد الفكر الليبرالى، وحسمت فقهيا فى المدرسة الوسطية الإسلامية الأرحب. المصريون سواء، ويجب سن قوانين وإجراءات تدعم المساواة بين المواطنين، بما فى ذلك ضمان تمثيل سياسى أفضل للمرأة والمسيحيين، ووضع قانون لبناء دور العبادة يجسد المبدأ الدستورى الخاص بحرية أداء الشعائر الدينية، وضمان حرية العقيدة، بما فى ذلك تغيير المعتقد الدينى دون أن يترتب على ذلك مشكلات اجتماعية، ومن خلال الأطر التى تضمنها الدولة الحديثة بما يعنى ذلك أن يكون تغيير المعتقد الدينى أمام القاضى، وليس لدى أى سلطة دينية، باعتبار أن الأمر يتعلق بالحقوق والحريات الأساسية للأفراد، لا رقيب ولا سلطان عليها، إلا القانون بما لا يخالف النص الدستورى الذى يجعل من اختيار المعتقد الدينى مسألة شخصية مطلقة لا وصاية للمجتمع عليها.
(2)
المسألة الثانية العدالة الاجتماعية، بما يعنى مكافحة الفقر، والتهميش، والبطالة، والقضاء على العشوائيات، وخلق هوية اجتماعية جديدة تسمح للمواطن المصرى، أيا كان وضعه الاجتماعى الاندماج فى المجتمع، والمشاركة فى شئونه، والعيش بكرامة إنسانية. هذه قضية مفصلية فى الثورة الديمقراطية، حتى لا نستبدل أقلية مستبدة بأخرى. يجب أن نطرح سؤال التنمية المتعثر منذ عقود، ونتفق على مسارات التنمية المستدامة، ونضع سياسات عامة تقلل الفجوة بين الطبقات، وتخرج الناس من براثن الفقر والعوز، وتحول المواطن من متلق للإعانة الدورية أو الانتخابية إلى منتج حقيقى. هناك دول استطاعت أن تحقق ما يشبه المعجزة فى تخفيض رقعة الفقر المتزايدة، وتمكين المواطنين فى مقدمتها الصين والبرازيل، ينبغى أن ننظر إلى تجربة كل منهما بكثير من التأمل.
(3)
المسألة الثالثة المساءلة والشفافية، بما يتطلب بناء نظام جديد يتيح أن يقدم كل مسئول أيا كان موقعه كشف حساب عما يقوم به من أعمال. لا حصانة فيه لأحد. يبدو من النقاشات الدائرة فى المجال العام أن القوى السياسية لا تدرك حجم الفساد والإفساد فى المجتمع المصرى الناجم عن تراكم منظومة حكم سيئ على مدار عقود ربطت كل عناصرها بآليات لتوزيع المنافع لا تزال مستمرة إلى الآن. الفساد فى المجتمع المصرى له ألف باب، تسد أحده فتجد الآخر مفتوحا على مصراعيه. إعمال المساءلة والشفافية تحتاج إلى حزمة من التشريعات التى تكفل حرية تبادل المعلومات، وتحافظ على حياد الجهاز البيروقراطى بحيث لا يُلحق مرة أخرى بحزب أو نخبة سياسية بما يؤدى إلى إبتلاع الدولة ذاتها كما حدث فى تجربة الحزب الوطنى سابقا، ولا نسمح له أيضا بالتغطية على الفساد بوضع لحية على وجهه، هذا إلى جانب وضع قوانين لمحاكمة الوزراء، وتفعيل دور الهيئات الرقابية، وضمان نشر تقاريرها الدورية على الملأ، وعدم المساس بالوظيفة الرقابية لمجلس الشعب.
(4)
المسألة الرابعة دولة القانون، بما يستدعى تطوير مؤسسات العدالة من أجهزة أمنية، والنيابة العامة، والقضاء، حتى تكون العدالة ميسورة، أقل تكلفة ماليا. فى هذا الصدد هناك فارق بين الدولة المتغلغلة والدولة المتغولة، الأولى دولة تنظم المجتمع بالقانون، والثانية تطغى عليه بالاستبداد. بالتأكيد يريد المصريون دولة متغلغلة قانونا، ولكن يتطلب الأمر إصلاح الجهاز الأمنى، وضمان استقلال النيابة العامة، والحفاظ على استقلال القضاء، وتطوير منشآته بما يتيح سرعة التعامل مع القضايا، وضمان وصول العدالة دون تباطؤ. غياب الدولة المتغلغلة قانونا، بعد تداعى دولة التغول الاستبدادى أدى إلى انخفاض منسوب الأمان الاجتماعى، نراه فى تزايد وتيرة الجرائم من خطف، وسرقة، واغتصاب، وبطلجة، ولجوء قطاعات من المجتمع إلى «الأمن الخاص»، كل ذلك يؤدى إلى ارتفاع تكلفة الحصول على «الأمن»، وينشر القلق والكآبة الاجتماعية، ويفتح شهية جهات تسعى لملء الفراغ بإيجاد «مطوعين» مثلما أعلنت جهة سلفية عن إنشاء هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، واللافت أن المنابر الإعلامية انشغلت بمعرفة مدى تبعيتها لحزب النور السلفى، ولم يزعجها وجود كيان أمنى دينى مواز لسلطة الدولة.
***
هذه «عينة» لأربع قضايا أساسية مفصلية، يقوم عليها أى نظام ديمقراطى، لا يوجد فيها حديث عن مايوه أو خمر أو قمار أو تهنئة المختلفين دينيا بأعيادهم، وليس فيها سجال حول الدولة المدنية والدولة الدينية، ولا تستدعى مواقف أيديولوجية حادة بين المختلفين سياسيا ما بين ليبرالى ويسارى وإسلامى. فقط تحتاج إلى التوافق حول سياسات عامة تضعها مؤسسة تشريعية واعية، وجهاز بيروقراطى قادر على تنفيذها. ما يُطرح فى السوق السياسية بشأن هذه القضايا، وغيرها يعبر عن عدم إدراك لحجم الأزمة التى نعيشها، واستحقاقات المرحلة المقبلة التى تسودها توقعات شعبية متزايدة. النخبة السياسية مغرقة فى المحلية، لا تريد أن تسمع أصواتا من خارجها، ولا تبغى التعرف على خبرات دول أخرى مرت بنفس ظروف المجتمع المصرى، وربما أسوأ منها، لكنها استطاعت أن تتجاوزها، وتصنع تجارب مبهرة. نحن لدينا سياسيون ينقصهم «الوعى الفنى» بالقضايا، يمارسون المساجلات الكلامية، ولكن عندما يرتطمون بالمشكلات الاقتصادية والاجتماعية يحتارون، وتبدو ضحالة نظرتهم إلى الظواهر المحيطة بهم. هؤلاء بحاجة إلى «بيوت للفكر» تتأسس، وتضم خبراء، وتجرى دراسات، وتقدم تجارب، وتطرح البدائل، وبذلك لا تخدم فقط نخبة شاءت الأقدار أن تتصدر العمل العام، ولكن أيضا تنتشلها من مساجلات عقيمة لا تبنى مجتمعا ديمقراطيا. إذا لم يحدث ذلك، فأغلب الظن أن النخبة سوف تُستهلك فى معارك سياسية، تاركة إدارة القضايا الاجتماعية والاقتصادية إلى جهاز بيروقراطى، متكدس، متلكس، يغيب عنه الإبداع، يعانى من الفساد، ويفتقر إلى الإمكانات المادية والبشرية، بما يمكنه من تفريغ الثورة من محتواها، فهو لا يحب التغيير، ولا تستهويه ديناميكية العمل السياسى، وإذا عدنا إلى خطب كل رؤساء مصر السابقين منذ 1952م إلى الآن سنجد كيف أنهم فشلوا، رغم تباين تجاربهم، ووضعوا فشلهم على كاهل الجهاز الإدارى.