خِيار وجَرجير - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:38 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خِيار وجَرجير

نشر فى : الجمعة 1 يناير 2021 - 7:50 م | آخر تحديث : الجمعة 1 يناير 2021 - 7:50 م

حين تقترب الساعة من التاسعة صباحًا؛ يُجلجِل صوتُ قويُّ في الشارع، يكرر عباراتٍ قصيرة لها رنين مُمَيَّز وطابع لا يتبدل. ينبه صاحبُ الصوت سكانَ المنطقةِ لوجودِه، يردد في نغمة ثابتة: "معايا خيار.. أنا معايا خيار". يصمت قليلًا ثم يكرر النداءَ لدقائق وينصرف.
***
بعضُ الأيام يتحوَّل الخيار إلى جرجير ويُضاف إليهما الليمون. الرجلُ مُلتزمٌ بالأنواعِ الثلاثة، لا يزيد عليها نوعًا رابعًا ولا يُضيفُ إلى بضاعته فاكهةً أو خُضرةً حلَّ موسمُها وانتشرت. تخصُّصه واضح والتزامُه أكيد.
***
لا يشير من قريبٍ أو بعيد إلى طزاجةِ خُضرواته ولا إلى جَودتِها، لا يُلحِق بها صفاتٍ طريفة كتلك التي درج الباعةُ الجائلون على استعمالِها؛ لا يقول عن الخيار أنه لوز، ولا يتحاكى بجَمَال حبات الليمون وفوائده، بل يكتفي بالصياغةِ التقريريةِ؛ المُجرَّدة مِن مُحسنات البديع.
***
ربما يرهف الرجلُ السمعَ لعلَّ زبونًا يصيح من شُرفته طالبًا الشراء؛ لكنه أبدًا لا ينقل بصرَه بين النوافذِ ولا يحدق فيها، يشخص ببصرِه ناحية السماءِ التي تطلُّ من بين البيوت، ويتوجه بحديثه إلى مَن يراه أهم وأعلى مِن القاطنين، وأقدرَ على جَبرِ خاطرِه؛ يردد بصوتٍ خافت لكنه مسموع: "حد يناديني يا ربّ". السكانُ لا يزال بعضُهم نائمًا، أما حديثه فلسُلطَةٍ في يقينِه يقِظة لا تغفو ولا تغفلُ عن وجوده.
***
في الكلماتِ التي اختارها الرجلُ خصوصيةٌ رغم بساطتها، وفيها أيضًا مِن الصرامةِ ما يُدهش السامعين؛ يصيح بأن معه "خيارًا" مُتلفظًا بضمير المُتكلم "أنا"؛ وكأنه يُحاضِر في مُدرَّج بالجامعة، أو يُلقي التعليمات في فصلٍ مَدرسي. نبرةُ صوته القاطعة توحي بأنه في مركزِ قوة، وبأنه لا يريد شيئًا من أحد؛ إنما هي مَعلومة يدفع بها إلى فضاءِ الشارعِ، وتردد صداها الجدرانُ العالية.
***
كثيرًا ما فكرت في مُبادلته النداء؛ لكن الرغبة في الإنصات له واستغراقه التام فيما يقول؛ يصنعان حائلًا منيعًا أمام خدش اللحظة واختراقها، والحقُّ أنني كلما سمِعت صوتَه الهادرَ ولزمت الصمتَ، شعرت أنني كالتلميذ البليد؛ الذي يستمع إلى الشرح ولا يُحرك يدَه للإجابة.
***
باعةٌ جائلون لا أول لهم ولا آخر، يرتحلون يوميًا مِن مَناطقَ ريفيةٍ متعددة؛ ليطوفوا المناطقَ السكنيةَ في المُدنِ والمراكز، يعرضون ما لديهم مِن فاكهةٍ وخُضروات. يستخدم أغلبُهم عباراتٍ مَحفوظة في وصف بضاعته؛ يتكاسلون أحيانًا عن رفع أصواتِهم بأي نداء، ويتبارون في أحيانٍ أخرى على ابتكارِ سُبُل الترويج.
***
حملت نداءاتُ الباعة فيما مضى جوانبَ بلاغية لا تُنكَر؛ بدءًا مِن التشبيهاتِ والاستعارات والكنايات الطريفة، مرورًا بتوافُق الألفاظِ والجِناس الذي يدغدغ أذنَ السامع ويجذبها، وصولًا إلى اللحنِ القصير المُتقَن الذي يجد طريقَه إلى البيوتِ؛ فيحفظه سكانها.
***
تراجع فنُّ النداءِ وكاد على مدار أعوام فائتةٍ أن يختفي؛ لكنه عاد مؤخرًا للظهورِ والازدهار. ربما أدى الركود الاقتصاديّ وعدم إقبال الناسِ على الشراء؛ إلى استعادةِ الباعة مهاراتهم القديمة، وإلى شحذِ لياقتهم في إبداع نداءاتٍ جديدة تلائم الواقع. على كل حال؛ ليست النداءاتُ ذات الطابع الفنيّ وحدها قد استرجعت مكانتَها، فكثير الباعةِ قرر أن يترك لزبائنِه فُرصةَ انتقاء الأجود مِن بين الثمار؛ بعدما استباح في الآونة الأخيرة زجرِ المتذمرين مِن ثمرةٍ لم تنضج بعد، أو أخرى شديدة النضوج.
***
أسفر انزياح نسبةٍ معتبرة مِن المُستهلكين إلى مستوى اقتصاديّ أدنى؛ عن إعلان عددٍ مُتزايد من الباعة والتجار استعدادهم لبيع كمياتٍ أقلّ مما اعتادوا. بعضُهم استبدل بالميزانِ التقليديّ ذي الأثقالِ المعدنية، آخر رقميّ، ومِن ثمَّ صار بمقدورِه أن يزنَ ثمرةَ فاكهةٍ واحدة أو ثمرتين؛ وفقًا لرغبةِ الشاري وقدرتِه المالية، وأن يحسبَ بدقة الثمنَ المطلوب، والبعض الآخر جعل الأمر تقديريًا مع التهاون في كسور الأوزان.
***
مع الهبوطِ الطبقيّ الملحوظ، ومع ما استجدَّ مِن ظروف تتعلق في المقامِ الأول بعجلةِ الاقتصادِ التي تدور عكس ما يُؤمل منها؛ تعالت النداءاتُ، وتراجع الخجلُ مِن ابتياع كمياتٍ صغيرةٍ تعكس عجزًا وافدًا لا حِكمةً أصيلة، كذلك لم يعد السؤالُ عن السعرِ قبل اتخاذ قرار الشراء؛ دافعًا للتواري والاستحياء.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات