شَــــرَف - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 10:37 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شَــــرَف

نشر فى : الجمعة 1 فبراير 2019 - 10:30 م | آخر تحديث : الجمعة 1 فبراير 2019 - 10:30 م

في مَجَاز لافتٍ للأنظار في حينه، شبه يوسف وهبي شرفَ البنت بعود الكبريت، وصارت عبارتُه أُمثولة تردَّدت على مَرِّ السنوات، إلى أن سخرَ مِنها مَن سَخر، واستبدل بالكبريتِ الولاعةَ، ولم تعد للمعنى المقصود هَيبتُه مع تغيُّر الحال، وبالمِثل تحوَّلَت مَشاهد أخرى كَثيرة؛ كان لها وقعٌ جاد، إلى مَقاطع هزليَّة تستَدِر الضحكاتِ، لفرط ما تجاوزها الزمن.
***
لكُلِّ فردٍ شَرَفٌ، وللجماعات كذلك شَرَف، وحتى لحظتنا هذه فإن شَرَفَ العائلةِ تعبيرٌ مُتَداوَل، ومَقبول لدى قِطاعاتٍ واسعةٍ مِن الناس. ربما يُستَخدَم في غير مَحَلِّه، ويُساء توظيفُه، بل وقد يُستَغَلّ في ارتكاب أنواع بعينها مِن جرائمِ العنف، لكنه يظلُّ ماثلًا في الأذهان؛ يظهر متى حَضَرت الحاجةُ إليه.
***
الشَّرَفُ في قواميس اللغة هو الحَسَبُ بالآباء، وتذكر المَعاجِمُ القديمة أن المرءَ لا يُوصَف بأنه شريفٌ إلا تبعًا لحَسَبه ونَسَبه، أي ليس الوصف خاصًا به وحده، بل المَقصود أن له آباءً أوائلَ أصحابَ شرَفٍ مَعلوم، وتُجمَع المفردة في كلمة أَشْرافٌ. أَشْرَفَ الشيءُ أي؛ ارتفع، والشُّرْفةُ هي أَعلاه، وجبل مُشْرِفٌ أي عالٍ. يُقال أيضًا أَشرَف على فِعلٍ ما، بمعنى أنه اقترب منه؛ كما في قَولةِ: أشرفَ الرجلُ على الغرق. كثيرًا ما يستخدم اسم التفضيل ”أشرف“، في معاركٍ لفظيةٍ عنيفة؛ يؤكد فيها شخصٌ؛ رجلًا كان أو امرأةً، أنه أشرف مِن الخصمِ وذويه: ”أشرف مِنك ومِن اللي جابوك“.
***
تزدان بعضُ الجدران التي لا يصادفها العاديون إلا قليلًا، بأُطرٍ أنيقة، مُعلَّقة بعناية، تَحتَلُّ أغلبَ الأحيان مَوقِعًا تمَّ اختياره بدقة؛ ليلمَحه حتمًا المَوجودون في المكان. شهادات مُوقَّعة ومَختومة، كلماتُها مَنقوشةً بخطٍ عربيٍّ مُنَمَّق؛ تُعلِن أن فلانًا ينتمي إلى الأشراف. للأشراف مَوقع ونقابةٌ، وصفحة مُعنوَنة على مَواقع التواصل الاجتماعية؛ تشير إلى أن السادةَ أعضاء النقابة، يحوزون الشرفَ الأكيد؛ إذ هُم مِن ذُرية الرسول.
***
تشرَّفنا بمعرفتِكم، ولنا الشرفُ، وقد زِدنا بزيارتِكم شرفًا. الرئيسُ الشَرَفيّ لجمعيةٍ أو مُؤسَّسة أو حتى حِزب، والعضو الشرفيُّ في نادٍ اجتماعيّ أو رياضيّ، وضيفُ الشَرفِ في مَهرجانٍ أو حَدَث عِلميّ، والتشريفة التي تَرتَصُّ في استقبال مُهِم مِن المُهمّين، أو في انتظار ذات جاه وسلطان. استخدامات لا حصر لها للشَرفِ ومُشتقاته، يُؤخَذ المَعنى في مُعظمِها بما درجنا عليه، وبما استقر في أنفُسنا واعتدناه، لا بما عُرِفَ عَنه في القديم.
***
يَرِد ذِكر ”خضرة الشريفة“ في بعض المواقف والحوارات، وعادة ما يأتي في إطار الهزلِ، أو في سياقِ التَعريض بمَن ادعى أو ادعت الشَّرفَ؛ والناسُ بحقيقةِ الحال عالمون. يحكي التاريخُ أن خضرةَ هي والدة أبي زيد الهلالي، وبسبب لون البشرة الداكن الذي جاء به وليدها؛ طالتها سهامُ الريب والشكوك مِن العشيرة. عاشت سنينًا مَطرودة مِن دارها ودار زوجها، إلى أن ظهرت براءتها، فحظت بلقب ”الشريفة“ الذي التصق باسمها نهائيًا، ولم ينفصل عنه مِن بَعد، ولاحقًا صار في مَنطقة الفسطاط مَسجدٌ باسمها. في عصرٍ مُختلِف وظرفٍ جَديد، ظهرت المُطربة فوقية ندا، التي عرفت في مجال الفن باسم ”شريفة فاضل“، وربما كانت مِن أشهر مَن اخترن للشهرة اسم شريفة. ولدت في النصف الأول من القرن العشرين، ودرست المسرح كما عملت بالطرب والتمثيل، وذاع صيت بعض أغنياتها مثل ”أم البطل“ و“حارة السقايين“.
***
في الرواية البديعة ”شرف“، اختار صنع الله ابراهيم اسم بطله عنوانًا دالًا، مختصرًا، وبليغًا؛ فشرف قد دخل السجن دفاعًا عن شرفِه، وفي السجن آخرين لديهم قصصٌ لا تنتهي عن الشَّرَف أيضًا، وفي جِعابهم حكايات وتفصيلات عن درجات مُتباينة مِن الفساد والخِداع؛ بما يختزل مَساحات الشَّرفِ المُتاحة مَعنويًا على مدار السرد. للشَّرف في الرواية معان كثيرة، وزوايا قد يخفى بعضُها ويتوارى.
***
بعيدًا عن المعاني التي تحفل بها المَعاجم والقواميس حول الأنساب، وعلاقتها المُلتبِسة بالشرف والمَجد على حدِّ سواء، وبعيدًا أيضًا عن المستندات والأوراق وطرق النفي والإثبات، لا يستقيم وَصفُ شخصٍ في وقتنا هذا بأنه شريفٌ؛ كونه حاز إرثًا لا فَضل له فيه، أو اصطَفَّ له الحرسُ بحكم مَنصبٍ أو جاه؛ فثمَّة أفعالٌ مُشَرِّفة، وأخرى مُشينةٌ شائهة. ثمَّة أفعالٌ تعلو وترتقي بفاعلها، وأخرى تنجرف به إلى مستويات دنيا؛ قد لا يلائمها مِن قائمة الكلمات أيُ نعتٍ أو توصيف.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات