السائرون بين العربات - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:51 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السائرون بين العربات

نشر فى : السبت 1 مارس 2014 - 9:00 ص | آخر تحديث : السبت 1 مارس 2014 - 9:00 ص

تذكرت فى جلسة راح أطرافها يجترون بعضا من أحلامهم المتداعية، امرأة عفية متينة العود، دنت منى ذات يوم وفى نظرتها شىء من الصلابة، وعلى شفتيها طيف ابتسامة ودودة يلمع عبرها ناب ذهبى، وقد استقر على إحدى ذراعيها القويتين صف مرتب من علب المناديل الورقية. كنت فى حال الانتظار المعتادة أمام إشارة حمراء حينما استندت المرأة إلى باب عربتى دون سابق إنذار، وبادرتنى من نافذتى المفتوحة: «ما تخافيش بكره ها نمشيهم».

صادفتها للمرة الثانية فى الإشارة ذاتها، وكان الحكم للرئيس المعزول محمد مرسى لايزال مستتبا، فمدت يدها تصافحنى ثم أكدت فى ثقة: «كلنا نازلين وهانطلع عينهم». ألفت مع مرور الوقت وكلما سلكت طريق العودة من العمل، زيارتها المتكررة وعباراتها المقتضبة، وتلك الرسائل التى تلقى بها إلى من حين لآخر، رسائل متواضعة، بسيطة الصياغة لكنها غالبا ما تأتى محددة وقاطعة.

•••

وضعتنى زياراتها التى صارت ركنا من أركان الانتظار اليومى الطويل أمام احتمالات عدة، إما أنها مجرد امرأة على سجيتها، تملأ ملل الوقت الطويل الذى تطوف فيه حاملة بضاعتها بمداعبة سكان العربات، تستلطف أن تعابث منهم من لا يستنكفون معابثتها ولا يرون فى اقتحامها لعزلتهم تطفلا مكروها، أو أنها امرأة زعيمة بالفطرة قد ألتقيها يوما فى تظاهرة، تسير على رأسها وتهتف فيها، أو أنها ــ وهو الاحتمال الذى ظللت أقاومه ــ واحدة من جيوش الفقراء، هؤلاء الذين تجندهم السلطة لخدمتها فى بعض الظروف وتستعين بهم فى أداء أدوار وأغراض متنوعة، ثم لا تلبث أن تنفض يدها منهم فور انقضاء مآربها. فكرت ثم لم ألبث أن نحيت محاولاتى لتصنيفها جانبا، لكنى مكثت أفكر لما تختصنى بالطمأنة كثيرا دون سائر قائدى السيارات.

•••

حل الثلاثون من يونيو وخرج الناس إلى الشوارع، وبعد أيام سقط حكم الإخوان واعتقل الرئيس الذى جاء ذات يوم منتخبا. اختفت المرأة قليلا ثم عدت أراها فى المكان نفسه بابتسامة أوسع. رأيتها مرة تكلم شابة تحمل رضيعا، ومرة أخرى تجادل صبيا يحاول تمثيل دور معاق مخفيا ذراعه اليمنى داخل قميصه المهترئ، ثم رجلا بالغا ضحوك الوجه يحمل مثلها علب المناديل الملونة. المرة الأولى التى لمحتنى فيها بعد ظهورها، أقبلت تحيينى فى حرارة وتهنئنى بالانتصار: «ربنا يخلى لنا الجيش والشرطة»، وعلى مقربة منها وقفت الشابة ذات الرضيع، كما لاح الصبى المحتال، والرجل الضاحك أبدا.

ظللت أصادف المرأة من وقت إلى آخر، نتبادل الابتسامات، أطلب منها أحيانا علبة مناديل وأقضى دقائق قليلة فى حوار يقطعه تحول الإشارة إلى اللون الأخضر، بينما أتساءل سرا إن كانت رسائلها سوف تبقى على حالها فى المستقبل القريب، أتساءل إن كانت ستحتفظ بصمودها وتتمسك بولائها، فيما تدور بين العربات دون انقطاع، تشد بقبضتيها القويتين على علب المناديل الملونة، وتبحث بابتسامتها عن زبون يلقى فى كفها بجنيه أو اثنين، ويستمع إلى عباراتها بغير تأفف أو ضيق.

•••

منذ بضعة أسابيع قابلتها، لكنى رأيت فى ملامحها شيئا جديدا، ألقت فى أذنى بكلمات كثيرة لا تحمل رسالة واضحة مثلما عودتنى من قبل، وقد انقلبت حماستها إلى فتور، كما لم يظهر نابها الذهبى فى محادثتنا تلك على الإطلاق. حين وجدتها على هذه الحال مرت أمام عينى صور متنوعة نشرت عن أصحابها الصحف فى الآونة الأخيرة، بائعة الأسماك التى أعلنت أنها تبصم بالموافقة دائما طمعا فى أن تكفيها موافقتها تلك شظف العيش، وبائعة الخضراوات التى تشكو شح الطعام كلما اضطرها المرض إلى التزام الفراش لكنها تدلى بصوتها متيقنة من أنه سوف يوفر لها المعاش والعلاج، والسيدة الجالسة أمام عشتها المنهارة تنتظر المسكن الموعود وفى الخلفية منها متاريس ومجندون. مر بذهنى أيضا حامل المناديل المبتسم، الذى انقلب إذ فجأة إلى حامل بطاقات تذكارية مدموغة بصورة حاكم جديد بأمره. جميعهم تحركه قوة قاهرة، جميعهم يكاد يكون عروسا من عرائس الماريونت، المشدودة أطرافها إلى خيوط كثيرة، تجتمع فى أصابع يد واحدة.

•••

وسط الأحلام والأمنيات المتداعية تتناثر كلمات هنا وهناك، تنقل أن ثمة أشخاصا مغبونين يجوبون الطرقات، وأن هناك من ينتظر لحظة مواتية كى يقتنص حقا طال إليه الاشتياق. سنوات ثلاث والناس يتهادون بتلك العبارات وكلما ضاقت الحلقة، يهمسون بأن ثورة جديدة سوف تولد، وأن الأجواء بها حبلى.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات