قاموسُ الكُرَماء - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:02 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قاموسُ الكُرَماء

نشر فى : الجمعة 1 مارس 2024 - 9:15 م | آخر تحديث : الجمعة 1 مارس 2024 - 9:15 م
سبقتني في الصفّ شابةٌ في العشرينيات. أعطاها البائع بقيةَ النقود التي دفعتها لقاء المشتروات وأضاف عبوتين صغيرتين من المايونيز والكِتشاب عوضًا عن الجُّنيهات الناقصة. رفعت يدَها في حَزمٍ رافضة: دول في المُقاطعة. سَحبَهما البائع على الفور؛ وكأنه كان ينتظر اعتراضَها، ويتمنى أن تنتصر لكرامتِها وكرامتِه في آن.
• • •
الكَرَمُ هو الجُود والسَّخاء، المَوصوف كريمٌ والجَّمع كُرماء، فإذا تحقَّق أمرٌ كان بعيدَ المنال؛ قيل يا كَرَم الله، وإن كَرِم السَّحابُ فقد جَادَ بالمطر، ويمكن العثور أيضًا على بَقلة الكَرَم؛ وهي نَبتهٌ ذات عصارةُ وفيرة. الكَرمُ هو أيضًا الصَفح، وكَرَمُ الأخلاق سُموٌّ ونُبل، وإذا قيل كَرُمَ الرَّجلُ بضمّ الراء؛ فالمعنى أنه عزَّ. الكرامَةُ مَصدر من الفعل، وكرامةُ المَرءِ هي احترامُه لذاتِه وشعوره بقيمته.
• • •
يزيد الإباءُ عن الكرامة في الإحساس بالأنَفَة؛ فإذا عاف الواحد منّا تصرفًا وكرهَه، أباه على نفسِه وامتنع عنه. الإباءُ كرامةٌ مَشفوعةٌ بالنُّفور من كل ما يمسُّ الذات أو يخدشُها. تراجعت دعواتُ مُقاطعة الأمكنةِ التي تدعم العدوَّ الصهيونيَّ وتلاشت بعضُ مَظاهرِها؛ رأيت على مدار الأسابيع القليلة الفائتة مقاعدَ مَشغولةً عن آخرها، وأشخاصًا جالسين إلى مشروباتهم ووجباتهم؛ تجتذبُهم العروضُ المُخفَّضة، وتُريق منعتَهم وتذهبُ بما تبقّى لهم من كَرامةٍ أدراجَ الرياح. لا يقتصُّ أحدهم لمهانة يستشعرها، أو يأبى أن يتناولَ طعامًا مَمزوجًا بالدماء.
• • •
هذا الذي يحفظ كرامتَه ويصونها يمضي في دربه مرفوعَ الرأس، وفي أبيات سميح القاسم وصفٌ سديد وسَلِسٌ لهيئة الشّخص الذي لا يُكابد أحوالَ المَذلة؛ بل يتمتع ببهاء العزَّةِ والشرف؛ يقول: مُنتصِبُ القامة أمشي .. مَرفوع الهامةِ أمشي .. في كفّي قصفةُ زيتون، وعلى كتفي نَعشي. الكلماتُ لحَّنها مارسيل خليفة وصارت أغنيةً واسعة الشُّهرة في منتصف الثمانينيات تقريبًا؛ تُلقَى على السامعين فتستثير فيهم مباهجًا شتّى، وإذ تمضي الأعوامُ وتنقرضُ كثير القيم والمبادئ؛ فإن الأغنيةَ تتوارى ولا تُسمَع بما اعتدنا من كثافة.
• • •
غالبًا ما يُلازم الكبرياءُ الكرامةَ وهو يفوقها ببعضِ الجوانب؛ ففيه القوة والسُّلطان والترفُّع عن الانقياد، وقد يُظهر صاحبه أيضًا شيئًا من الاستعلاء. في الكبرياء شُموخ واعتزاز؛ وما أكثر الصفات التي نطلقها هنا وهناك، وما أوفر الادعاءاتُ التي نحب أن نلوكها بمسافة من الواقع.
• • •
لم يُورد حافظ إبراهيم في "مصر تتحدَّث عن نفسها" مفردة الكرامةِ مطلقًا؛ لكن القصيدةَ نضحت بكل مَجاز من شأنه الإيحاء بالرِّفعة والشَّمم فمِن: "أنا إن قدَّر الإله مَماتي لا ترى الشرقَ يرفع الرأسَ بعدي"، إلى: "إنني حُرَّة كسرت قيودي، رغم أنفِ العدا وقطعت قيدي". قدَّمت أم كلثوم الأغنية بألحان العظيم رياض السنباطي في مطلع الخمسينيات؛ فكانت عنوانًا لمصر التي ما عدنا اليومَ نعرفها.
• • •
العِزَّة وجهٌ من وُجوه الكرامة، وعِزَّة النَّفس من اعتدادِ المَرء بها، فإن أفصح واحد للآخر: يعزُّ عليّ حزنُك، أو يَعزُّ عليّ فراقُك؛ فكناية عن مَوقع أثيرٍ في القلبِ يخُصُّ الشَّخصَ المَقصودَ بالقول. يحكي المأثور عن عزيزِ قومٍ ذلّ، والحق أنه قد لا يكون بريئًا من ذلته، فالمصائر تتحدَّد بالشراكة، والشَّخص الذي يرتضي الهوانَ ليس على الدوام ضحية.
• • •
هذا الذي يثور لأقل إهانة يضع كرامتَه في طرفِ أنفه، وربما يُقال إن أنفَه في السماء؛ كنايةً عن مَبلغ اعتزازه بكينونته، فإن داسَ أحدٌ طرفَه، أو كسر أنفَه بفعلٍ أو قَول؛ لبذل النفيس والغالي في الردّ. أنشد الحطيئةُ من قديمٍ في دفاعه عن اسم القبيلة: "قومٌ هم الأنفُ والأذنابُ غيرهم .. ومَن يسوّي بأنف الناقةِ الذَنَبَ"، والحقُّ معظنا تحوَّل إلى أذناب، ولم تعد للناقة أنف، ولإن أشعل الجنديُّ المنتمي لسلاح الجو الأمريكي في جسده النيران، احتجاجًا على الإبادة المتواصلة التي تشارك فيها حكومته ضد الفلسطينيين؛ فقد استحقَّ عنا الوصفَ، ولإن قيل فيه الشِّعرَ ما وفَّى حقَّه، ولإن رفع الناسُ صورتَه في كلِّ مكان؛ فحبًا وكرامة وتخليدًا للإباء.
• • •
في غابر الزمن كان الشَّخصُ كثير الرَّماد هو هذا الذي يطهو ويطعم بلا مقابل، خيره وافر، وضيافته عامرة. تبدَّلت الحالُ ولم يعد في الساحة من كرماء؛ بل لم يعد في مَقدور كثير الناس مُضايفة صديقٍ أو قريب، إذ ما تحوز اليدُّ لا يكاد يكفي أهلَ البيت، وبعضُ البيوتِ تنام على جوع.
• • •
يقول المثلُ الشعبيّ: "تجوع الحرَّة ولا تأكل بثدييها"، والمراد أن الجوعَ ليس مُبررًا للتذلُّل، ويُذكَر في سياقٍ مُوازي أن بعضَ الجوارح لا تأكلُ مِن الجيف؛ فطبعها المُواجهة والقَّنص والصَّيد، لا التقوُّت على ما تعده بغريزتها دنيًا حقيرًا، والشاهد أن على المَرءِ أن يسلك الطريق التي تحفظ كرامته؛ وإن بدت صعبة أو ذات عواقب وخيمة.
• • •
كثيرًا ما يُقال إن كرَامةَ فلان لا تسمح له بكذا وكيت؛ لكن الأكثر شيوعًا أن يدعو واحدٌ الآخر: تعالى على كرامتك؛ والمعنى فاحش مُهين، عبَّرت عنه الأغنية اللاذعة: "لجل ما نعلا ونعلا ونعلا لازم نطاطي نطاطي نطاطي". تلك هي كلمات بديع خيري التي قدمها سيد درويش، إذ تعكس ميراثنا العتيق الذي يبرِّر التذلل ويصوره كمُقدمةً لازمةً للصعود، والحقيقة أن المرءَ ما انحنى مرَّة؛ قبع أبدًا في مكانه.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات