(1)
يقول الروائى الكولومبى الأشهر جابرييل جارثيا ماركيز «إن الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هى ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه».
(2)
قبل 38 عاما تقريبا (قد تزيد عاما أو تنقص عاما)، كنت أنتظر رمضان فى مثل هذا الموعد، تماما، أجواؤه العامة خلال أشهر الصيف (من أغسطس نزولا إلى إبريل) هو بالنسبة لكثيرين «صيام» فى عز الحر والصهد والعطش، كنت صغيرا، لا فارق عندى بين حر وبرد، المهم ما أشعر به من أجواء الاستقبال الحافلة التى يقيمها الناس، وما يبدون من مظاهر الفرح والاحتفال والتحضر لشهر جمع العديد من المزايا والأمور المبهجة حقا ويصعب جمعها معا؛ الصيام والقيام وصلاة التراويح، والفرجة على الفوازير والجلوس على المقاهى، ومشاهدة المنوعات والمسلسلات وبرامج الكاميرا الخفية، وأهم وأخطر شىء هو تحضير طعام الإفطار ومتعة لا تنفد والسحور وبهجته ولمته وطعمه فى القلب والذاكرة معا!
(3)
ثلاثة وأربعون «رمضانا» (وتنوين الممنوع من الصرف هنا مقصود طبعا!)، مرت علىّ منذ الميلاد، بدأت أعى منها ما بقى فى الذاكرة ووعته المخيلة، وأنا فى الخامسة، ثم فى السادسة، حينما كان رمضان يعنى فى بيتى وبيوت المصريين جميعا «فرحا» و«بهجة»، وحدثا استثنائيا يتأهب كل من فى البيت لاستقباله بدور معلوم، ومهام مخصوصة، فأنا مكلف بشراء فول السحور من مطعم «ثروت» فى الشارع المجاور لشارعنا، وشراء «العيش» من الفرن، و«المخلل» الوصاية من طرشجى «الحتة» الشهير، وأخيرا «الزبادى»، هذه مهام وتكاليف ثابتة ومقدسة، لم تتغير منذ كنت فى الخامسة وحتى الخامسة عشرة تقريبا.
(4)
حينما كبرت قليلا، وتعرفت على نجيب محفوظ، وأنا فى المرحلة الإعدادية، واكتشفت روائعه السردية، وجدته يصف بهجة رمضان فى العديد من أعماله الروائية العظيمة؛ منها مثلا هذا المقطع فى روايته الجميلة «المرايا»؛ يقول نجيب محفوظ:
«وكانت ليالى رمضان فرصة هنية للصغار من الجنسين، يجتمعون فى الشارع بلا اختلاط، ويتراءون على ضوء الفوانيس وهم يلوحون بها فى أيديهم، وكنا نترنم بأناشيد رمضان ونتبادل مشاعر الحب وهو كامن فى براعمه المغلقة. وقنعت عواطفنا الساذجة بتبادل النظرات، وإظهار الرشاقة فى الجرى والغناء، أو المخاطبة بالابتسام فى خفاء»، وكنت أتوقف طويلا أمام هذه المقاطع، وأستسلم لفيض الذكريات والتداعى الحر الذى لا يملك المرء له دفعا!
وكان من ذكرياتى التى تناوشنى (مع صعوبة استدعاء التفاصيل بدقة) تخايل لى وأنا ألعب فى الشارع مع أقرانى ألعابا لم يعد منها شىء يذكر الآن، فقبل الإفطار ألعاب مخصوصة، وبعد الإفطار أخرى معينة، لا تهاون فى ذلك، وغير مسموح بخرق النظام المتفق عليه بين الأقران! كنا نلعب «البلى»، و«صيادين السمك»، و«النحلة»، و«جوز وفرد»، و«الأولى»... إلخ.
(5)
هل يعرف صغارنا الآن لعبة «النحلة» أو «الدبور»؟ هل سمعوا عن لعبة «النوى» التى كنا نجمع فيها «نوى» المشمش بأعداد مهولة ونحفر حفرة صغيرة فى الأرض الرخوة (قبل أن تغطى بطبقة غليظة وناتئة من الزفت الأسود لا هو ارتقى ليصير «أسفلت» طبيعيا ممهدا لسير البشر والمركبات، ولا تركت الأرض كما خلقها الله!) ونلقى بجوز (نواتى مشمش مجتمعتين) أو فرد (نواة واحدة فقط) ونرى إن كنا سنصيب الحفرة بما نطقناه أم لا.. ربما كان اسمها «جوز وفرد»!
«كازوز الحاجة الساقعة» أو أغطية زجاجات المياه الغازية الشهيرة فى ذلك الوقت (البيبسى والكوكاكولا طبعا؛ لكن هناك أيضا تيم وكندا دراى وسبورت كولا!) لم تكن لتلقى دون أن تكون عنصرا رئيسيا فى لعبة ما! نفرد الغطاء و«ندقدقه» بطوبة أو شاكوش حتى يصير بلا حواف، ثم نجعله حائلا لأربطة «النحلة» أو «الدبور» كى نلقيه بسهولة ويسر، ليطير هذا الدبور مخترقا طبقات الهواء محدثا صوتا أخاذا كأنه ضربة سوط منتشية! ويتخذ موقعه برشاقة على الأرض، يدور بسرعة ومهارة ولفترة غير قصيرة، كما لو كان أمهر راقصى المولوية على الإطلاق!
كنا نتبارى فى اختيار أجود القطع وتزيينها وتلوينها والعناية بسنها والتأكد من أنها فى غاية التمام للمشاركة فى المسابقات اليومية، نستمتع غاية الاستمتاع بأداءات الموهوبين المميزين من بيننا باستعراض حركات خاصة فى التدوير ولف «النحلة» وإبقاؤها على حالها الراقصة هذه لأطول فترة ممكنة!
(وللحديث وذكريات رمضان بقية)..