حال العرب.. ملاحظات حول مأساة المفكر غير العضوى - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 8:35 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حال العرب.. ملاحظات حول مأساة المفكر غير العضوى

نشر فى : الجمعة 1 يونيو 2018 - 10:10 م | آخر تحديث : الجمعة 1 يونيو 2018 - 10:10 م

يحوى الفكر العربى المعاصر تراثا تنويريا حقيقيا أسهم فى صياغته وتطويره كتاب وأدباء وفنانون عاشوا خلال القرن العشرين بين ظهرانينا أو حنت عليهم المنافى حين ضاقت بهم الأوطان. مأساة تنويريى القرن الماضى الذين عاشوا رومانسية حلم تقدم ورقى العرب كمنت فى غياب فاعليتهم المجتمعية وما رتبه ذلك من حالات ذهنية ونفسية شديدة السلبية، بدأت بالتعامل الساخر مع الواقع رافض التغيير ومرت بالرؤى العدمية ومحاولة إرضاء الذات بحلول فردية يلفظها الضمير الحى وانتهت بشعور عميق بالعجز وفقدان الرغبة فى مواصلة الطريق والاستسلام لمصائر الاستبداد والتأخر المحتومة.

وقد اعتدنا فى نقاشاتنا العربية على تفسير مأساة المفكر العربى هذه بالإشارة فقط إلى عوامل مثل طغيان الحكومات السلطوية محتقرة التفكير الحر والطاقة الإبداعية وهيمنة المؤسسات التقليدية العشائرية والأبوية معيقة التغيير. غير أن نقد الحكومات السلطوية والتقاليد البالية، وعلى الرغم من محوريته، لا يمثل هنا سوى وجه واحد من وجهى العملة المتداولة. أما الوجه الآخر فيرتبط بالمفكرين العرب أنفسهم ورؤيتهم الذاتية لموقعهم وحدود دورهم. على سبيل المثال، لم ترتب أمور كغياب الديمقراطية والحضور المستمر للتعقب الأمنى للأصوات النقدية فى مجتمعات المعسكر الاشتراكى السابق (الاتحاد السوفييتى السابق وأغلبية بلدان أوروبا الشرقية والوسطى خلال جل النصف الثانى من القرن العشرين)، لم ترتب هيمنة الإحساس بالعجز والنظرة الانهزامية على الحياة الفكرية هناك. بل تبلورت، خاصة منذ النصف الثانى للسبعينيات، تيارات للمقاومة والدفع فى اتجاه التغيير كان من بينها جماعات المنشقين ودعاة العصيان المدنى ونوادى القلم والحركات الاجتماعية الجديدة التى ضمت فى عضويتها مفكرين كثيرين وأسهمت بفاعلية فى التحول نحو الديمقراطية مع بداية التسعينيات. قاوم مفكرو التغيير فى المعسكر الاشتراكى السابق استبداد الحكومات، قاوموا على الرغم من انتقامية الحكومات وعنف أجهزتها الأمنية. وربما تدلل سيرة عالم الفيزياء الروسى أندريه سخاروف (١٩٢١ــ١٩٨٩) على ذلك، فالعالم الشهير الذى أعتبر فى أعقاب الحرب العالمية الثانية من آباء «القنبلة النووية السوفيتية» وحاز على معظم الألقاب التكريمية للإمبراطورية البائدة (من نيشان لينين إلى جائزة ستالين) شرع منذ الستينيات فى الدعوة للإصلاح السياسى وأيد ربيع براغ فى ١٩٦٨. ثم انتقل الرجل إلى صفوف المعارضة بصورة علنية مع إضرابه المتكرر عن الطعام بين ١٩٧٤ و١٩٧٥ على نحو لم يمكنه من استلام جائزة نوبل للسلام بصورة شخصية والتى كانت قد منحت له فى ١٩٧٦. وفى عام ١٩٨٠ اعتقلته السلطات السوفيتية وجردته من كل ألقابه، إلا أنه استمر فى كتابة مقالاته النقدية المنادية بالتغيير الديمقراطى حتى أفرج عنه الرئيس قبل الأخير للاتحاد السوفييتى جورباتشوف فى ١٩٨٦. وصار سخاروف حتى وفاته فى موسكو فى عام ١٩٨٩ رمزا لمقاومة الاستبداد وللمعارضة السلمية ولطلب الديمقراطية.

***

يصبح التساؤل المشروع، إذا، هو لماذا يعجز مفكرو التغيير ودعاة التنوير العرب عن مقاومة الاستبداد بين ظهرانينا ومواجهة الحكومات السلطوية؟ ولا أعنى فى هذا السياق مجرد وجود أصوات نقدية لمفكرين ينشدون التقدم ويطالبون بالتغيير الديمقراطى، فبلاد العرب لم تعدم مثل هذه الأصوات بكل تأكيد. بل المقصود هو حضور مفكرين يستطيعون الانتقال بنقدهم إلى مرحلة ثانية عمادها الفعل السياسى السلمى على أرض الواقع لإحداث التغيير. تحويل الفكر إلى حقيقة مجتمعية، وبغض النظر عن احتمالات النجاح والفشل، هو حلقة مفقودة فى بلداننا التى لم تسر بعد على طريق البناء الديمقراطى. تحويل الفكر إلى حقيقة مجتمعية هو الذى يضفى على أصوات المفكرين النقديين الشرعية الأخلاقية والمصداقية القيمية القادرة على تحريك المواطنين للمطالبة السلمية بالتغيير. تحويل الفكر إلى حقيقة مجتمعية هو ممارسة للسياسة تتجاوز بوضوح صياغة البيانات المنادية بالديمقراطية وكتابة المقالات الناقدة للحكومات السلطوية.
وقناعتى أن العجز عن مقاومة الاستبداد وعن الوقوف سلميا فى وجه الحكومات السلطوية طلبا للتغيير دون هدم أو فوضى إنما يتعلق، من جهة، بإيمان أغلبية المفكرين العرب بكون الدولة الوطنية ومؤسساتها، وليس المجتمع وفعالياته، هى الوحيدة القادرة على إحداث التغيير وكون باب الديمقراطية إنما ينفرج فقط من خلال إقناع الحكومات ونخبها بجدوى التحول الديمقراطى. أما حين ترفض النخب التغيير وتتمسك بامتيازاتها، وذلك هو حال النخب العربية خاصة فى أعقاب انتفاضات ربيع ٢٠١١، فتنزع أغلبية المفكرين العرب إلى رفض التغيير خوفا من الهدم والفوضى وتجنح إلى تفضيل أوضاع الاستبداد والاستقرار المجتمعى الذى تعد به على حساب طلب إقرار الحريات وحقوق الإنسان وسيادة القانون والتداول السلمى للسلطة. ومن جهة ثانية، تتملك المفكر العربى نظرة ذاتية لموقعه ودوره العام قوامها الانفصال عن خريطة القوى المجتمعية. لا تعرف أغلبية المفكرين العرب هويتها على نحو يرتبط عضويا بالمجتمع وحقائقه وآماله، بل تشدد على الانفصال الزمانى والمكانى عن المجتمع «المتأخر» و«الرجعى» وغير ذلك من التوصيفات السلبية. تنتشر عبارات مثل «أنا كمثقف» و«دورى هو النقد والتحليل والعمل المجتمعى على الجماهير» و«ليس على مواجهة الحكومات السلطوية، بل فقط توعية الناس بضرورة الطلب السلمى على التحول الديمقراطى» فى أحاديث مفكرى التغيير ودعاة التنوير العرب، وتعمم من ثم الفهم الطليعى الزائف لدور المفكر وترتب فى التحليل الأخير تواصل الجمود المجتمعى وفشل مساعى التغيير (كما حدث فى أعقاب انتفاضات الربيع العربى ٢٠١١) واستمرار مأساة المفكر.

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات