لا أظن أن أحدا فى العالم أفرط فى استخدام تعبير «القوة الناعمة - Soft power» كما فعلنا نحن المصريون، فالمفهوم الذى صاغه جوزيف ناى من جامعة هارفارد فى كتابه الصادر عام 1990 بعنوان «مقدرة للقيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأمريكية» ثم قام بتطويره فى كتاب آخر عام 2004 بعنوان «القوى الناعمة: وسائل النجاح فى السياسة الدولية»، أصبح المفهوم من بين أكثر المصطلحات تداولا فى وسائل الاعلام المصرية لكنه يستخدم لدينا «عمال على بطال»، وأظن أنه سيظل طويلا ضحية للاستعمال والاستسهال والاستغلال والاستهبال ايضا.
وعلى الرغم من هذا الافراط إلا ان مسئولينا هم الأكثر تفريطا فى قوى مصر الناعمة، وانظر مثلا لما جرى بحق رمزين كبيرين كانا ملأ السمع والبصر والفؤاد، الاول هو نجيب محفوظ والثانى جمال الغيطانى.
ومن المفارقات الدالة أنهما كانا الأكثر اهتماما بالذاكرة من بين كتابنا المعاصرين الا أنهما تحولا على يد موظفى الدولة ومسئوليها لضحايا محترفى الهدر والتجريف.
فلا يزال مصير متحف نجيب محفوظ غامضا بعد 11 عاما على وفاته بالتمام والكمال (مات فى 30 اغسطس 2006 ) وماتت ابنته الكبرى وهى تتحسر على مقتنياته التى تركتها للدولة ولا تعلم شيئا عن مصيرها، بينما توارت فكرة اطلاق مركز ثقافى باسم الغيطانى إلى الظل بعد أقل من عامين على اطلاقها على لسان صحفى مخضرم هو مكرم محمد أحمد له كلمة نافذة فى هذا البلد، وفى حضور مسئولين كبار فى الدولة من بينهم وزير الثقافة.
والمدهش أكثر من أى شىء آخر هو أن أجهزة المحليات وهى التى لا ناقة لها ولا جمل بادرت مشكورة بتسمية أحد شوارع الجمالية باسم الغيطانى كما تم اطلاق اسمه على مدرسة فى مسقط رأسه فى «جهينة» بسوهاج، فى حين عجزت وزارة الثقافة عن تأسيس مركز ثقافى يحمل اسمه فى الحى الذى نشأ فيه قرب سيدنا الحسين وحولت الملف برمته لوزارة الآثار التى تناكف فى متحف محفوظ بسبب أزمة «أسانسير» يبشرنا المسئولون كل عام بقرب تركيبه ولا شىء يحدث.
وشخصيا كنت اتمنى لو أن كاتبا مثل يوسف القعيد كان مقربا من الكاتبين الراحلين اهتم بإثارة الموضوع تحت قبة البرلمان لنعرف المسئول عن هذا الإهمال المتعمد.
وإلى الآن لا أحد يعلم شيئا عن مصير الجائزة التى وعدت «أخبار اليوم» بإطلاقها تخليدا لذكرى الغيطانى، لكن ما اعلمه فى السياق ذاته أن القيمة المالية لجائزة نجيب محفوظ التى تقدمها الجامعة الامريكية سنويا لم تعد مناسبة وبحاجة إلى «تصحيح وضع» لأن مياها كثيرة جرت فى نهر الجوائز منذ تأسيسها فى العام 1996 وحتى الآن.
ومن عبث الاقدار أن يتحدث رئيس الدولة عن تثبيت الدولة ثم يأتى ممثلون عنها ومسئولون فيها لتقويض أركانها واهدار قوتها الناعمة ممثلة فى رمزين كبيرين نالا أقصى درجات التكريم فى العالم.
إنه الأحباط الذى دفع بكاتبة كبيرة وحاضرة مثل ماجدة الجندى زوجة الغيطانى العارف بقيمة مصر لإعلان يأسها من أجهزة الدولة والتفكير جديا فى تبنى اقتراح المعمارية جليلة القاضى بتكوين جماعة اصدقاء جمال الغيطانى، واقتراح آخر من الكاتب محمد سلماوى، بتبنى جائزة أخرى يساهم فيها كل يقدر مشروعه الابداعى لأننا كما تقول «بحاجة إلى قيمة» الذاكرة «لبناء تراكم نواجه به هذا الخواء المحيط الذى عاجلا وآجلا ندفع ثمنه.. وفعليا لا أمل هناك، أو لا أمل فى مصداقية تبنى مثل هذه المعانى على الأقل على مستوى الأجهزة الثقافية، فقد تعبنا من الكلام..»