نشرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب نجيب صعب بتاريخ 31 يوليو تحدث فيه عن تشكيك البعض فى مصداقية قضية التغير المناخى التى يشهدها العالم، كما تناول عدم جاهزية قرارات المنظمات الدولية للتنفيذ... نعرض من المقال ما يلى:
بعض غلاة المشككين بحقائق التدهور البيئى والتغير المناخى احترفوا اقتناص الفرص لتفسير التقارير والأحداث على هواهم. فهم أحيانا يقولون المسئولين أقوالا لم ينطقوا بها، ويؤولون أحيانا أخرى كلامهم بتفسيرات تناقض مضمونه. وقد تزايدت هذه الحالات أخيرا فى منطقتنا والعالم، بدافع أحداث اعتبرها الشعبويون جرعة حياة.
شبكة «فوكس» الإعلامية الأمريكية وصفت احتجاجات مربى المواشى فى طرقات هولندا على اشتراطات بيئية جديدة بأنها «بداية ثورة عالمية للمزارعين فى مواجهة ديكتاتورية البيئة والمناخ ضد الإنتاج الزراعى». غير أن المسألة تختلف كليا عن هذا التفسير التحويرى، لأن التدابير الهولندية ليست ضد الإنتاج الغذائى، بل مع استبدال بعض الأصناف بأخرى. فقد شهدت مزارع الأبقار والخنازير تضخما كبيرا خلال العقود الأخيرة، تلبية لطلبات التصدير، سواء أكان من اللحوم أم منتجات الحليب. وتحولت مساحات شاسعة من الأراضى لزراعة الأعلاف، رغم صغر مساحة البلد، مما منع زراعة منتجات غذائية أساسية للاستهلاك البشرى.
الاشتراطات الجديدة المطلوبة للمساهمة فى تنفيذ هولندا التزاماتها بخفض الانبعاثات، لسنة 2030 وما بعدها، تتضمن تقليص قطعان المواشى. وهذا يعنى أن على بعض المزارعين من مربى الأبقار التحول إلى نشاطات زراعية أخرى، مثل القمح والنباتات الصالحة لإنتاج الزيوت بدلا من الأعلاف للحيوانات، والتخفيف من استعمال المبيدات الكيماوية التى تتسبب بترسبات أكسيد النيتروجين الملوثة للتربة والمياه الجوفية. قد تبدو المشكلة بسيطة، يمكن حلها بخفض إنتاج اللحوم والأعلاف الحيوانية واستبدال مزروعات صالحة للاستهلاك البشرى المباشر بها. لكن الواقع أن الزراعة ليست حرفة عرضية، بل هى عادات متوارثة وثقافة، مما يجعل من الصعب الطلب من المزارعين التحول الفجائى من تربية الحيوانات وزراعة الأعلاف إلى إنتاج القمح والخضار والبطاطا مثلا. والحل الواقعى يكون فى وضع جدول للتحول قابل للتطبيق، وإعطاء المنتقلين إلى الزراعات البديلة حوافز تشجيعية. وفى نهاية المطاف، تبقى مصلحة المجتمع هى الأساس، وليست هناك من مهنة أو حرفة «مقدسة» غير قابلة للتبديل، خصوصا إذا كان هذا مطلوبا لمواجهة خطر تغير المناخ، الذى يهدد الوجود البشرى.
الأوساط نفسها، التى روجت لثورة المزارعين ضد ديكتاتورية البيئة والمناخ فى هولندا، نشطت أخيرا فى وصف حالة الإفلاس التى ضربت سريلانكا، وأدت إلى ثورة شعبية على أنها نتيجة لالتزام البلاد بشروط بيئية فرضتها المنظمات الدولية المانحة قبل سنوات. الواقع أن الرئيس السريلانكى المخلوع أصدر فى إبريل 2021 قرارا فجائيا بمنع استخدام المبيدات الكيماوية فورا، مما أدى إلى تدهور سريع فى الإنتاج الزراعى. وكانت النتيجة إلغاءه بعد شهور. لكن حصر دوافع الانهيار الاقتصادى به يجافى الواقع، إذ يتجاهل الأسباب الحقيقية للانهيار، وهى الفساد والسرقات وانعدام الحكم الرشيد. هذا لا يمنع اللوم عن المنظمات الدولية لوصفاتها الجاهزة الناقصة فى كثير من الأحيان، كما لا يعنى إعفاءها من المسئولية.
ووصل التقويل والتأويل إلى «قمة الأمن والتنمية» التى عُقدت أخيرا فى جدة. فقد تمادى بعض المحللين المشككين بحقائق تغير المناخ فى إعطاء تفسيرات خاطئة للموقف السعودى الواضح والصلب فى القمة، الذى لم يكن إلا تأكيدا لسياسة حكومية صريحة ومعلنة. فمن جهة أشار ولى العهد الأمير محمد بن سلمان، فى كلمته، إلى أن أزمة الطاقة التى يواجهها العالم اليوم تثبت ضرورة اعتماد مزيج متوازن للطاقة وعدم إهمال أى عنصر، إذ لا يجوز أن يتذكر بعضهم الأهمية المستمرة للوقود الأحفورى وقت الأزمات فقط. لقد قام بعض المغرضين بتأويل هذا الكلام على أنه انقلاب على الاتفاقات المناخية الدولية، متجاهلين التزام ولى العهد فى كلامه بمتابعة ضخ الاستثمارات فى الطاقة النظيفة، والالتزام بخفض الانبعاثات المسببة للاحتباس الحرارى، من خلال برنامج سلس للتحول يحترم قدرات الدول ويساعدها فى تحقيق أهداف التنمية المستدامة. ومن آخر «إبداعات» المشككين ما نشره أحد مفاوضى المناخ العرب السابقين فى حسابه على «تويتر» قبل أيام، من أن الحرائق الضارية فى أوروبا ليست نتيجة للارتفاع غير المسبوق فى درجات الحرارة، بل هى مفتعلة لإيهام الناس أن المناخ يتغير فعلا، والدفع للقبول بتخفيض الانبعاثات. إذا كانت الحرائق مفتعلة، فهل درجات الحرارة القياسية التى لم تشهدها أوروبا قبلا مفتعلة أيضا ومجرد أوهام؟ أم أنها أيضا مؤامرة؟
الحلول المتوازنة التى تحافظ على البيئة، وتحفظ حقوق الجميع، لا يمكن تحقيقها بالنظريات الشعبوية وكوابيس المؤامرات.