عن المنع وفنونه - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:05 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن المنع وفنونه

نشر فى : السبت 1 سبتمبر 2012 - 8:30 ص | آخر تحديث : السبت 1 سبتمبر 2012 - 8:30 ص

استمعت بانتباه إلى صديقة إيرانية تلقى محاضرة بأكاديمية المرأة بميونيخ، ترصد فيها أوضاع النساء داخل المجتمع الإيرانى، وتشير إلى تطورات غير محمودة على صعيد الحق فى التعليم والثقافة، منها اعتزام النظام السياسى وضع بعض العراقيل التى تحول دون التحاقهن بالجامعات. قرأت مؤخرا خبرا صحفيا يؤكد ما تابعته منذ شهور، النساء ستُمنَعنَ من دراسة بعض المواد العلمية والأدبية بدعوى عدم ملاءمتها لطبيعتهن، وقد أعلنت عدة جامعات إيرانية مُقَدَّما عدم قبول فتيات للدراسة بها، خطوات متتابعة، رأت الصديقة ــ التى مازلت أراسلها ــ أنها تهدف إلى قمع المرأة الإيرانية وإعادة حصارها داخل الجدران، مع ذلك لم يساور أيما شك فى الفشل الذى سوف تلقاه تلك الخطوات.

 

•••

 

استدرجنى الخبر السابق لمراجعة تجارب متنوعة، كان هدفها الدائم هو المنع قسرا وإجبارا، وسواء كان الممنوع ضارا أو ذا فائدة، فإن غالبية النتائج لا تشى بنجاح كبير؛ حين منعت بعض المجتمعات المنغلقة نساءها من ممارسة حياتهن الطبيعية بالقوة وبسنِّ التشريعات التى تجرم وتحرم، لم يستدع هذا المنع إلا المزيد من التحدى، والكثير من المقاومة التى أسفرت عن انتصارات هنا وهناك، حين منعت مؤسسات الدولة تداول بعض النصوص الأدبية، زاعمة تعارضها مع خصوصية الثقافة والتقاليد، لم يأت المنع لها إلا بالرواج والانتشار، أما الحالات التى استخدم فيها المنع الجبرى تجاه بعض الظواهر المقلقة، مثلما هو الأمر مع تعاطى المخدرات، فلم تأت النتائج كذلك على المستوى المأمول؛ لم تقلل عقوبة إعدام التجار من كم المعروض، ولم يفلح تجريم المتعاطى فى خفض نسبة المدمنين، يدرك الأطباء أن المنع وحده ليس حلا، وأنه لا يمكن لشخص اتخاذ قرار بالإقلاع عن مخدر نيابة عن آخر ودون رغبة حقيقية منه، لذلك لا تفلح معالجة المدمن قسرا فى غالبية الأحوال، إذ سرعان ما يعود لسابق العهد. محاولات حجب المواقع الإباحية عنوة، لم تكلل هى الأخرى بالنجاح، فالعوائق التكنولوجية يمكن التغلب عليها دائما بما هو أكثر تقدما وذكاء، مع ذلك يفضل المسئولون التعامل مع الأمر بالأسلوب نفسه؛ أتيح لى الاطلاع على خطاب رسمى من مؤسسة دينية، تناشد فيه الأطباء النفسيين التحرك لإغلاق المواقع «الإباحية» لما لها من تأثير نفسى ضار على الناس، لم يتطرق الخطاب إلى أسباب انتشار تلك المواقع وتزايد مستخدميها، ولا تساءل عن دور العوامل الاقتصادية والاجتماعية أو حتى أشار إليها من بعيد... فقط حَرَّض على المنع والمصادرة، وفى السياق ذاته، أوصى تقرير حكومى بدراسة الحلول الفنية، التى لجأت إليها دولة فى الجوار العربى لحجب تلك المواقع، من أجل تفعيلها فى مصر، وهى حلول تتكلف أقلها ملايين الجنيهات. يسأل المرء نفسه إن كان من الأجدى صرف تلك الملايين على بناء المدارس والمراكز الرياضية والثقافية.

 

•••

 

لا تحقق فكرة المنع بالقوة هدفها فى غالبية الأحوال وإن ظلت هناك بعض الاستثناءات، فالمنع يستثير الفضول ويصنع هالة زائفة تزيد الانجذاب نحو الممنوع، وتستفز كل القدرات للوصول إليه، يمكننا أن نرى فى ملايين النماذج أن المنع أقوى مُحَرِّض على الخرق. بعض الوسائل والابتكارات الجديدة تهدف إلى المنع دون إكراه؛ علبة السجائر عظيمة الشأن، تواجه محاولات المنع منذ فترة ليست بقصيرة، وقد أعيت محاربيها الحيل.. لجأت بعض الدول إلى رفع الضريبة المفروضة على السجائر لنسبة 25%، وبعضها فرض قيودا على الإعلانات الإلكترونية وأنفق ملايين الدولارات على حملات التوعية الاجتماعية، إلا أن كل تلك الإجراءات لا تبدو وقد أتaت بنتائج مرضية. مؤخرا قررت الحكومة الأسترالية أن تقوم بتنفير المدخنين من السيجارة، وفصم العلاقة الحميمة التى تربطهم بها، فرضت الحكومة تصميما ولونا واحدا باهتا للعلب جميعها، ومنعت طباعة العلامة التجارية عليها، وأضافت تحذيرات صحية شديدة. تؤكد شركات التبغ أن هذا الإجراء سوف يفسح الطريق أمام سجائر مقلدة ورخيصة، وسوف يرفع معدلات التدخين، أما الحكومة الاسترالية فترى أن تلك الخطوة هى بمثابة «لحظة فاصلة فى مكافحة التبغ فى جميع أنحاء العالم».

 

•••

 

من المؤكد أن قرار المحكمة الدستورية الأسترالية المؤيد لخطة الحكومة لم يصدر اعتباطا، وأن ثمة دراسات وإحصاءات وقياسات، رجحت أن الشكل الجديد سوف يضعف من الجاذبية، ويخفض الإقبال. يقول دارسو الفنون الإعلانية والتسويقية إن الناس يرتبطون بالأشكال والصور لأنها تستدعى إلى أذهانهم الذكريات، ولأنها تظهر الاختلافات بين فرد وآخر، يقولون أيضا إن العلامة التجارية تحمل أهمية كبيرة، حيث تشير إلى القيمة والمكانة المتميزة للمُنتَج وبالتالى لمستهلكه. رأيت بعض الأصدقاء يشترون علبة السجائر المصرية بما عليها من تحذيرات، وينقلون محتواها متأففين إلى علب أخرى معدنية مزدانة بصور لطيفة، بدلا من تلك التى أُجبِرَت الشركات المنتجة على طباعتها فى السنوات الماضية.

 

قد ينزعج قدامى المدخنين من التغيير، ولا شك أن ارتباطهم القديم سوف يفقد جزءا من قوته، أما هؤلاء المنضمون حديثا إلى دائرة الدخان، فغالبا ما لن تُجد الحيلة معهم، سيرتبطون بالشكل الجديد للعلبة باعتباره المصدر الأول المُجَرَّب للإشباع، وسوف يعاود المعنيون بحثهم عن وسائل أكثر تأثيرا.. لعبة لا تنتهى. 

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات