فكّر في حيرة ثعلب إنجليزي، أحمر بهي الطلعة، لو حاول أن يلج مدينة مثل القاهرة لـ "يقلب عيشه"، مثلما ما يفعل في أدنبرة أو أوكسفورد في ليل مستقر. ثعلب إنجليزي أحمر هارب من كتب لايدي بيرد، ومن أحراش مانشستر وألقاه الحظ في الدويقة، ليصرخ في أسى ذي شجون: "باسكت الزبالة فين يا ولاد الوس*ة!! " ما الذي يمكن أن يفعل؟ وأي مقاومة؟ عربات تعدو ذات اليمين وذات الشمال دونما قاعدة، الأواني، السكاكين، الضوضاء في الساعة الخامسة فجرًا، المطبات، مياه المجاري، أطفال الشوارع، ضباط الكمائن، مقاهي الإنترنت، المقاهى، عربات الفول، بالأحرى، كيف يمكنه أن يدافع عن نفسه أمام قططنا البلدية المحنكة؟
قبل قليل، كنت في ستوكهولم، المدينة التي يثير اتساقها فيك استرابة ما، وأصبت بنوبة من طيبة القلب، بعدما أتممت كتابة مقال ما واستلمت نقوده بشكل سريع لم احتسبه، فبينما أنا ألتهم بعضا من طعام بسيط، مكون من التوست ولحم الديك الرومي، مفترشا حشائش حديقة بديعة، فكرت في أن أشاطر نورسين يقفان على مقربة مني بعض الطعام، قلت لنفسي رزقني الله فلا بأس من مشاركة وتشاطر. أخذت في إلقاء الطعام للنورسين، اللذين أصبحا ثلاثة، فأربعة، فخمسة، فعشرة، فاثنى عشرة. اجتهدت في هندسة ما أرمي، حتى تصل كل قطعة لكل نورس لم يأكل قبلا، حتى أتممهم، ثم أعود للبداية مرة أخرى.
تحالقت النوارس حيث أجلس، ولمحت نظرة ساخطة من شابة إفريقية الأصل- أو هكذا ما يبدو- تجلس بالقرب مني، للمهرجان الذي صنعته حولنا. شعرت ببعض من الخجل، وأسرعت في إفراغ جعبتي من الطعام، لأعود لبعض من السجائر والعصير. أدركت النوارس أن الوجبة المتواضعة قد فرغت، فبدأت في التناقص حتى اختفت بعيدا. وبينما أنا أحاول استراق النظر إلى الفتاة لأتأكد من رضاها الذي لا شك فيه الآن، ضربتني فكرة: هل رأيت النوارس مرة في الإسكندرية؟ هل حط بجوارك نورس في ميدان سعد زغلول؟ هل استطلع ما تأكله فوق كراسي كافيه ديليس الشهير في مواجهة البحر؟
وجدت نفسي أضحك، لأنني رأيت طاجنا من النوارس المطهوة بالبطاطس في الفرن. بالطبع لا نورس يجرؤ على التوغل في دروب مدننا الزاهرة، بالضبط كالثعلب الإنجليزي الأنيق. على العموم لِمَ نذهب بعيدًا، هل رأي أحدنا الثعلب المصري الصغير طويل الأذنين أبدا، هنا أو هناك، في دروب القاهرة الفخورة دوما بنفسها؟!
منذ أيام قليلة، صحت القاهرة على نبأ ذبح للقطط بعد تسميمها في ناد راق، وتراوح المردود بين الانزعاج، والسخرية، والتهكم الأسود، لا سيما حين تضامن أعضاء النادي الراقي مع القطط، فارتدى بعضهم زي قطط، ورفع بعضها لافتات تقول "من يقتل الحيوان اليوم سيقل البشر غدا"، قال بعضهم، فوق الأرائك، والكراسي، واقفين أمام عرباتهم، أو مدونين فوق صفحات الفيسبوك: إننا بالفعل قتلنا ألوف من البشر قبل أقل من سنة. لقد قتلنا بعضنا بالأمس، ولم ننتظر للغد.
يقتسم دروب القاهرة القطط البلدية الرشيقة، والكلاب البلدية التي حين يستطيل شعرها، تكون كالثعلب الذي يحاكي ذئبًا، ويعاني الاثنان من محاولات عدة للاغتيال، وأشكال أبعد من التحرش الجسدي، حظ القطط أفضل لأنه قد يرق قلب سيدة وحيدة، أو رجل رفيق، أو طفل يتعس أبويه بالإلحاح، حتى يكون القط الجميل في منزل صغير، ولكن الكلب، كلابنا البلدية التي تأكل فضلاتنا وتشن حروبها في شوارعنا، التي تهابنا أحيانا وتفهمنا أحيانا أخرى، هذه الكلاب التي تتأثر بما يجري لنا، فصار معتادا أن نرى كلابا عصبية في شوارع المحروسة التي كانت- ومازالت- تشتعل طوال سنين أربع، هذه الكلاب لا يدعوها أحد أن تقتسم اللقمة ومكان النوم.
هكذا يسعى الكلب البلدي، تحت سماء ملوثة وفوق أرض تكره نفسها، وراء دبابات الفيلد مارشال الأحمق، وعبر وهاد مدينة الفينية، وحيدًا أو مطاردًا، وعذرنا الوحيد له: نحن نقتل بعضنا أساسا، كما تعرف.
كل كلاب القاهرة ستذهب إلى الجنة..