كان الأستاذ محمد كامل حسن، يعمل بكتابة السيناريو، وكانت بضاعته رائجة كما يبدو، لأنني رأيت اسمه كثيرًا على تترات الأفلام، مصحوبًا بلقب "المحامي". قال لي أحد الخبثاء وهم كثيرون، إن السبب في هذا هو الترويج لتجارته الأصلية، بينما انحزت أنا وعديد آخرون لنظرية أن الأستاذ محمد كامل يستعر من مهنة يخالط فيها "الأرتيست"، أو أن يكون هو بذاته، والعياذ بالله، "أرتيست".
مناقشة العار الذي يلحق بلقب "أرتيست" قديم، ويعرف الكثيرون منا موضوع أن شهادة "المشخصاتي" كانت لا تقبل في بداية القرن الماضي، قبل أن يتحسن الحال قليلا، في ميل لقطب الحب في هذه العلاقة المضطربة ما بين الحب والكراهية، التي تجمع الجمهور المتحفظ بالفنانين، حين يسبون آباءهم ويخوضون في أعراضهم قبل أن يجلسوا وعلى رؤوسهم الطير مستمعين لأم كلثوم أو أمام أحد أفلام الموسم.
ولكن المحامي؟ ما هو المميز في المحاماة، وأنت ترى يا صديقي الآلاف الذين يتخرجون من كلية الحقوق، التي تأخذ مجموعًا متواضعًا من خريجي الثانوية العامة، تراهم لا يأبهون كثيرًا مع اعتزازهم—أو حنقهم— بكمية الكتب التي يتوجب عليهم قراءتها، والسنة الثانية الملعونة، وكون كلية حقوق عين شمس هي أصعب كليات الحقوق جميعها. ترى بعضهم ممن يرتدون البدل الرخيصة في ممرات المحاكم الابتدائية، بنظرات الشمس البلاستيكية والشوارب الخفيفة، متنقلين ما بين مواساة الأهالي ورشوة الحاجب، وهم يعلمون أن صبري نخنوخ هو الأقدر على خدمة موكليهم بدون اللجوء لعناء التقاضي، أو هي مكالمة حاسمة لقاضٍ مستعد، بها ترغيب أو ترهيب، علي حسب مواقع طرفي المكالمة. المحامي كما هو، بلا بطولة أحمد زكي في ضد الحكومة، أو جاذبية يحيى الفخراني في أوبرا عايدة.المحامي الذي تحول في نظر الكثيرين إلى نصاب مقنع.
ولكن، كان الأستاذ محمد كامل حسن يصر على كتابة مهنة المحامي اعتزازًا. كيف لا، وقد كان زعيمه، زعيم الأمة كلها، سعد باشا، من المحامين؟ كيف وقد كان العديد من الباشوات الذين يشار إليهم بالبنان من المحامين والقضاة؟ من سدنة القانون؟ أحمد لطفي السيد، مكرم عبيد، مصطفى النحاس، مصطفى كامل، محمد فريد، عبد الرحمن الرافعي، عبد العزيز فهمي، إسماعيل صبري، محمد صبري أبو علم، عبد الخالق ثروت، فؤاد سراج الدين، كل هؤلاء من المحامين المصريين، وهم بعض من كل، حين كان السبيل للترقي الاجتماعي هو أن تجيد اللعبة التي اتفق عليها المجتمع بأسره كفيصل وكحكم: القانون.
لعبة الأمم المتقدمة هي القانون، هي كيف أن آخذ حقي، أو أنكل بخصمي بالقانون، وهكذا كان المحامي مهنة قمة في مصر، وما يزال مهنة قمة في الشمال الأوروبي البعيد، حيث نخنوخ هو الجريمة وليس الحكم، هو الانحراف وليس الوسيلة. كنت محظوظًا لفترة، حين كان حماي السابق محاميًا في الشمال الإنجليزي، له مؤسسته الخاصة على أطراف المدينة الكبيرة، وكنا نجلس في طرف من الليل، بجوار مدفأة إلكترونية تنكرت في صورة كلاسيكية، وكأنها تعمل بالفحم، متبادلين مشاريب المساء، وليشرح لي بأدبه الجم وأريحيته الكبيرة، بينما سيدات المنزل نائمات، الفروق ما بين الباريستر والسوليستر، وكيف تجري إجراءات التقاضي، والجزء الذي كنت فضوليًا بشأنه: كيف تتم الصفقات القانونية باتفاق القاضي ومحامي الطرفين. كنت فضوليًا في هذا الجزء لأنني أعلم أن مبدأ القانون الفرنسي الذي نتبعه يختلف عن القانون الأنجلو ساكسوني الذي تتبعه الدول البروتستانتية، وإن انحدر كلاهما من القانون الروماني "الرومان كود". وإن كنا في غابر الزمان أميل للأنجلو ساكسون في البناء السياسي (الملكية الدستورية)، والقانونية (مواد مثل شاهد الملك)، لأسباب يمكن تفهمها.
كان القانون في بلدنا هكذا، أو هكذا كان يحاول، قبل أن يتحفنا الله بضباط جيش نكلوا بكل شيء، ليس من وجهة نظر أسرة أحبها وأنحاز إليها عن مدى حكمة قانون الأغلبية، قانون الأغنياء، قانون الأقوياء، قانون الاستبداد، ولكن من باب "فعال لما يريد"، أي الاستبداد نفسه بلا قانون حتى، يصل بنا الأمر في ٢٠١٤ حتى يفرض الضباط الجدد، أبناء الضباط القدامى، قانونًا يجعل ذكر الجيش في أي وسيلة أو طريقة أو اتجاه أو انحناء أو ارتفاع أو انخفاض هو جريمة ضد الإنسانية وحقارة ضد التاريخ وازدراء للأديان. الضباط؛ الضباط الذين ضاع منهم القطار ثم سرقت منهم القضبان. ضاعت مننا أشياء كثيرة حين ظهر المحامي خليفة خَلف خلف الله خِلف خلاف المحامي، وسنسترد أشياء كثيرة حين ينتصر محامون شباب جدعان مثل محمود بلال وسامح سمير، وبالطبع: خالد علي."