في التين والزيتون - محمد علاء الدين - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 5:46 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

في التين والزيتون

نشر فى : الإثنين 27 أكتوبر 2014 - 11:45 ص | آخر تحديث : الإثنين 27 أكتوبر 2014 - 11:45 ص

يجيء الخريف، ورغم الأحزان تنفتح الصدور ببهجة لنسمة باردة، وكأنها تزيح التراب برفق من فوق حيوات صدئة. تطوف النسمات بحلم إسماعيل القديم الجديد، تتسلل عبر الأعمدة، وفوق الملاط، والحديد، والرخام. تصطدم بأحجار عتيقة كبيرة تحمل عروقًا من خشب، وزخارف رهيفة أتت مثلها من الشمال البعيد، تنجذب ما بين فراغات وممرات قلب المدينة، لتمنحك، فجأة، بهجة آنية لا يمكن وصفها بكلمات، وكأنما هي لحظة استفاقة الجميلة النائمة، وكأنما هي لحظة عم فيها وهج لا يضايق العين، إنما يزيدها تبصرًا وحساسية.

هكذا تتآمر يد الإنسان ويد الله لتحب وطنك الحقيقي، حيث ولدت تحديدًا، وحيث قضيت سنوات حبك وعذابك، فرحك وحزنك، وجهات نظرك في الهزائم والانتصارات، ووجهات نظرك في الأحلام والأوهام والتمنيات، حيث تعثرت وحيث عدوت، حيث تسكعت وحيث دخنت وحيث نظرت إلى النساء، حيث كنت أحمقًا وحيث كنت فخورًا. حيث المكان الذي تسميه مصر، وتعلم بنوع من المجاملة أن كل الأنوار التي تأتي عبر سعيك في الصحراء والحقول، وحيث تطل اليابسة على بحر عانى الكثير، هي تأتي من أوطان أخرى تحمل ذات الاسم لذات مواطنيها، حيث تتقابلون كسياح، فيشكر لك في جمال ميدان سليمان باشا، وتحدثه أنت عن عظمة الكورنيش، ثم يعود كل منكما إلى مصر التي يعرفها.

حين أكون راكبًا عربة ما، عابرًا فوق كوبري أكتوبر، تضربني بهجة الخريف ونسماته ومنظر الكورنيش وأنواره، الماء، المراكب، حتى الفندق الأسمنتي الكريه في هذه اللحظة أيضًا، أحب مصر التي أعرفها. أحبها في هذه اللحظة تحديدًا بذات الوجل الذي تحسه بقلبك عندما تنتظر حبيبتك ثم تراها قادمة من بعيد.

ولدت في وسط المدينة، وعركت شوارعها وأركانها، حيث تتبدل مناطقها بمجرد التقاطعات: شارع محمد فريد، الذي يرتمي طرفه أو امتداده حتى ميدان السيدة، ويصل طرفه الآخر إلى رمسيس، عابرًا بكل ما يمنك أن تتخيل. أو هو نوبار، شارع مولدي وحياتي، الذي يرتمي بجوار ميدان السيدة بقليل جدًا، ليعبر بلاظوغلي، لبتنكر في اسم شريف عند وزارة الأوقاف، لينتهي عند دار القضاء العالي. في الثالثة عشر من عمري، جربت أن امشي ناظرًا إلى أعلى، فرأيت العجب، ورأيت الجمال، ورأيت أحلام مجضهة في حجر.

ورغم الأحزان، تحمل لي الشوارع ونسمة الخريف، ابتسامات الناس ومحادثات الأصحاب، التنمر المرح والتثاقل الحذر، الجميلات في الزمالك والمتقافزات في وسط البلد، الشاي ذو النعناع، خبطات أحجار الدومينو ورائحة معسل التفاح البحريني، ساندوتشات الطعمية وعدس القزاز، تحمل لي كلها بهجة صغيرة، هي كل العالم وكل الأحلام، هي لحظات رفق وكأنما هي راحة يحصل عليها جسد متعب، مثقل، مأزوم بكل ما هو سبب سعادته، تكمل هذه اللحظات الحياة وتمنحها سبب للتنفس، بدون الاختصار وخيانته، التي نشتهيها كثيرًا.

وفي الخريف، تصدر الدولة أمرًا بحبس اثنين وعشرين من خيرة شبابها، وبينهم يارا سلام الجميلة كبدر، وسناء سيف اليانعة، تصل دولة العسس والمخبرين أوامرها بحبس الزهور في علبة حديدية، بعيدًا عن كل عزاء ممكن لكابوس الحياة فيها، بعيدًا عن هذه الأشياء الصغيرة، بعيدًا عن حلم إسماعيل، الذي لم يفعل أؤلئك الشباب شيئًا غير محاولة إكماله، بينما تستمر هذه الدولة، هذه الكابوس، في مطاردة النسمات، في اهمال الحجر، في دعس كل نبيل بداخلنا بكلب حراسة أسود كريه يدعى الخوف، في القتل الذي يُرقد الجثث وفي القتل الذي يُطلقها هائمة في الطرقات.

حتى في الخريف، تستمر هذه الدولة في المشي كزومبي يعبر ميدان سليمان باشا ناشرًا اللعنة في خطوات متشنجة، وعواء قبيح، وغل لا يبرد ولا يهدأ.

محمد علاء الدين روائي مصري
التعليقات