أطياف كاميليا... رواية الشجن المقيم - سيد محمود - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 4:06 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أطياف كاميليا... رواية الشجن المقيم

نشر فى : الثلاثاء 1 سبتمبر 2020 - 9:00 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 1 سبتمبر 2020 - 9:39 م

تمس رواية «أطياف كاميليا» التى صدرت عن دار الشروق للكاتبة نورا ناجى القلب مباشرة وتشق طريقها لمخاطبة الأرواح بدون فذلكة أو ادعاء أو حتى حاجة إلى ابتكار وصفة أو تقليعة وأظنها ستكون من الروايات سعيدة الحظ التى ستحظى بفرص أوسع من الانتشار على الرغم من البؤس الشائع فيها.
تستند الرواية على حكاية عادية من الحكايات التى تتكرر يوميا عن اختفاء زوجة من بيت زوج تزوجته استجابة لتعليمات الأب الذى قطع الطريق على نجاح ابنته فى الصحافة بعد أن علم بعلاقة تجمعها مع فنان تشكيلى متزوج كانت تغادر بلدتها طنطا لأجل اللقاء معه داخل مرسمه بالقاهرة لكن زوجة شقيقها التى تغار منها تنجح فى كشف خطوط هذه العلاقة لتتخلص من وجودها فى بيت العائلة ويكون الحل هو تزويج كاميليا لجمال المدرس الذى يفتقد لأى ميزة، غير أن اللعنة تتكرر وتحل روح كاميليا وقصة تمردها فى ابنة شقيقها التى تحمل نفس الاسم وترث الصفة وعبر السرد تتداخل القصتان فى نسيج واحد.
والأكيد أن الحكاية لا تبدو جديدة، لأنها مستهلكة فى عشرات القصص التى دارت حول تمرد الفتيات ورغبتهن فى تجاوز حدود العائلة أو المدينة استجابة لنداهة التحقق والاستقلال والعيش فى العاصمة، غير أن نورا ناجى فى معالجة الموضوع أفلتت من هذا الفخ ببساطة وبذكاء سواء باللغة التى كتبت بها أو بالحلول التقنية التى استعملتها.
أظهرت الكاتبة قدرة فائقة على تقديم نص مكثف مكتمل البناء يتسم بالسلاسة والإيقاع المتوازن إلى جانب وجود مدخل تشويقى يعتمد على واقعة الاختفاء التى تبقى أسبابها مجهولة لما بعد منتصف الرواية.
وأوجد هذا المدخل تدفقا سرديا يجذب القارئ الساعى لجمع الخطوط وأداء وظيفة المحقق الجنائى فى الواقعة التى نمسك خيطها الأول ونحن نتابع كاميليا الصغيرة وهى ترى عمتها التى تعشقها تذوب أمامها فى المرآة فتصاب باضطراب شديد يظل مصاحبا لها إلى مراهقتها، التى نجحت الكاتبة فى اظهار عالمها دون التنميط المعتاد ومع اكتشاف المذكرات التى تركتها العمة لدى زوجها تفهم كاميليا الحياة بشكل مختلف، وتدرك أن لكل شخص نسخته الخاصة من الحكاية، كما أن الزمن هو القوة الوحيدة المتحكمة فى كل شىء.
تشبه لغة الرواية القفاز الناعم ولعلها كانت الرهان الأول الذى بنت عليه الكاتبة خيوط عالمها المتماسك تماما فهى شجية وفى أقصى حالات الرهافة، تشبه عزف كمان يلاحق الأبطال السائرين فى مارش جنائزى طويل.
أما المدخل الثانى للعمل فيتعلق بالحلول التقنية التى لجأت نورا لاعتمادها، سواء تقنية المخطوط داخل الرواية لتقسيم أزمنة السرد انطلاقا من أوراق العمة التى تكشف واقعها وزمنها الذى عاشته، وحين تقرر كاميليا الصغيرة استلهام القصة كأنها تعيد أداء نفس الدور من خلال سيناريو معد سلفا تتشكل ملامحه أمامنا بفضل اللجوء إلى الكتابة من عين الراوى العليم.
ولجأت الكاتبة لتقنية تعدد الأصوات وهى تقنية ديموقراطية أتاحت لها توزيع الأدوار لتتمكن كل شخصية داخل الرواية من تقديم نفسها للقارئ والكشف عن دوافعها وتاريخها الدرامى وفى نفس الوقت التخلص من استبداد الراوى الذى يتواكب مع مسعى البطلة للخلاص من الاستبداد الذكورى المهيمن على النص.
وما أن يعبر القارئ الصفحات الأولى من الرواية حتى يرى نفسه قد تورط فى هذا العالم المشحون بأنماط مختلفة من القهر الاجتماعى وبات مسكونا بهاجس تلح الرواية على تأكيده وهو ثمن العيش فى بيت يأكل ساكنيه وينجذب سكانه نحو الهاوية وإدمان الخراب.
وعلى الرغم من أن أى تأويل للعمل سيتورط فى الانحياز لنماذجه النسائية التى تدفع الثمن المباشر للعلاقات الاجتماعية المعقدة والمشوهة إلا أن الرواية لا تغفل عن تأكيد فكرة أن هذا القهر شامل للرجال قبل النساء وتقول الرواية بوضوح أن ما تعانى منه النساء هو انعكاس لهذا القهر المعمم، فالأب فقد ساقه خلال حرب الاستنزاف وعاش عالقا بين المهانة والبطولة وبين ماضيه وحاضره ولم يعش حياته كما كان يتمناها ومر كطيف عابر لم يشبع من الحياة أو يتعمق فيها، أما الأخ فقد خسر حلمه بالبقاء فى القاهرة ليكمل أحلامه فى احتراف الكتابة ويظل الزوج جمال بتكوينه الفريد شخصية روائية يندر أن تتكرر فى أدبنا العربى، فهو متسامح متصالح مع الحياة، يستحق الشفقة ولا يمكن أن تطوى صفحات الرواية دون أن نودعه بدمعة ودون أن نستسلم لفيض المقولات الكبيرة التى تفيض بها الرواية ودون أن نحسد الكاتبة على شجاعتها فى تبنى خيار الانحياز للحياة والانتصار للتمرد وخيار العيش ومواجهة الانكسار لأنه لا يوجد سوى عالم واحد، وحياة واحدة يجب أن تعيشها.