ما إن انطفأت الأنوار في قاعةِ السينما، وبدأ عرضُ أجزاء من الأفلامِ القادمةِ عربيةً وأجنبية؛ حتى طلبَ ولد صغير من أمِه أن يذهبَ إلى دورةِ المياه. سكتت قليلًا ثم قرَّرت فيما يبدو أن تتخلص من المَوقِف وأن تسألَ أباه اصطحابه، ولما كان الوقتُ ضيقًا والقيامُ مُزعجًا؛ فقد حَمل صوتُ الرَّجلُ غيظًا واضحًا وهو يسأل الولد: حَبَكت؟
• • •
تقول معاجمُ اللغة العربية أن الفعلَ حَبَك يعني شدَّ وأحكم؛ فإذا حَبَك المرءُ الحَبل، كان القصد أنه فتله فتلًا قويًا شديدًا، وإذا حَبَك العقدةَ فالمعنى أنه جعلها متينةً عصيَّة على الحَل. الحَابِك هو الفاعلُ والمَفعولُ به مَحبوكٌ والمَصدر هو الحَبْك بتسكين حرفِ الباء.
• • •
كثيرًا ما نستعمل السؤالَ الاستنكاريَّ: هي حَبَكت؟ حين يُصرّ شخصٌ على القيام بفعلٍ ما، في وقت يراه الآخرون غير مُناسب، ربما الاستماع إلى غناءٍ وطَربٍ فيما الحالُ حزنٌ وحِداد، أو استضافة نفرٍ من المَعارف والأصدقاء بينما السبَّاك يعملُ على إصلاح ما أفسدَ الدَّهر، وربما كان المَوقفُ المُستنكَر مَحض مُصادفة تعيسة؛ كأن تنقطع الكهرباءُ وثمَّة مَن يستخدم المَصعد.
• • •
الحقيقةُ أنه يمكن طرح هذا السؤالِ الذي يجري على ألسنتنا بغزارةٍ، في كثير الوقائع التي نُصادفها اليوم، والتي تُفرَض علينا فرضًا، ولا نملِك إزاءها إلا الاستجارة. ثمَّة تاريخٌ يتعرَّض للمَحو، وأثر يُدَكُّ ويَغدو طللًا، وإذا كانت بعضُ الخسائر قابلةً للتعويض كإعدام المساحاتِ الخضراء، واقتلاع ما نما على مرّ العقود من نوادرِ الأشجار، فإن أمرَ الحَجَر والنَقش يختلفُ ولا جدال، وإذ يَضجُّ الناسُ ويتداولون حول ما يجري من مآسٍ؛ يجيء السؤالُ عَفويًا، : هي حَبَكت؟
• • •
الثوبُ المَحبوكُ هو المَنسوج على أكملِ ما يَكون، لا عَيب فيه ولا نَقيصة، والحائكُ الماهر قادر على إخفاءِ أيّ سَهو أو خطأ قد يقع فيه، أما إن بانت السَّقطاتُ ولَحظها الزُّبون، فقد دلَّت على غيابِ الصَّنعة وتراجع اللياقةِ وفَقر الحِرفة. لم يعد أغلبُ الصُّناع وأصحاب الأعمال اليدويَّة على ألمعيةِ أسلافهم، فما بين التعوُّد على استخدام الآلات والماكينات التي تؤدي مُعظمَ أدوارهم، وبين الاستهتار بالصورةِ التي يخرجُ عليها المُنتَج النهائيّ وعدم الاعتناءِ بجودَتها؛ تحوَّلت مِهنٌ مُتعددةٌ إلى واجبٍ ثقيل يُؤدى بلا روح، تظهر فيه أماراتُ الزهقِ والضّيق، وتتكثفُ علامات اللا مبالاة، ليصبحَ في نهايةِ الأمر انعكاسًا رديئًا لزمنٍ أمضى رداءة.
• • •
إذا شاهَد الواحد عملًا دراميًا مُمتعًا ومؤثرًا؛ لأفردَ له الثناءَ وأشادَ بالحَبْكة. حَبْكةُ الدراما هي التي تقود المُتفرجَ إلى التفاعلِ مع ما يُقدَّم له، أو قد تصدُّه عنه، وتُنفره من استكمالِ المُشاهدة. قليلُ الأعمالِ الحديثةِ يتمتع بحبكةٍ جيدةٍ، وكثيرها يفتقر إلى التماسُك والاتساق، وغالبُها يدفع المتلقّي إلى السُّخرية والتنكيتِ إزاء تهلهُلِها وخَيبةِ القائمين عليها.
• • •
على كلّ حال، العملُ المَحبُوك هو عالِ الإتقان؛ أيًا كانت نوعيته وأيًا ما استوت طبيعته. ثمَّة كذبةٌ مَحبُوكةٌ لا يُمكن أن يرتابَ فيها أحد، وثمَّة مؤامرةٌ مَحبُوكةٌ يتعذَّر اكتشافُ مُدبرها، وثمَّة قصصٌ عديدةٌ يرويها الأطفالُ عن إيمانٍ كامل، فيضحك منها الكبار ويُعيدونها على أسماعِ الآخرين كمزحةٍ طريفة؛ كونها تظلُّ بريئةً مكشوفةً، مُفتقدة لأدنى درجةٍ من درجاتِ الحَبْك والتنميق.
• • •
تذكَّرت والحديثُ عن الحَابِك والمَحبوك؛ اسمًا شهيرًا اقترنت سيرةُ صاحبِه بقضيةٍ، نالت في حينها اهتمامًا جماهيريًّا واسعًا. اللقبُ الذي تناقلته وسائل الإعلام هو "الحبَّاك" بتشديد الباء، ويمثلُ صيغة مُبالغة من الفِعل، والمعنى المُستقى يُشير إلى القدرةِ العالية على التفكير والتدبير والإحكام، والحقُّ أن صاحبَ الاسمِ لم يحظَ منه بنصيب؛ فقد أدين بتهمةِ الكَّسب غير المَشروع وذهبت به أفعالُه التي ظنَّها بعيدةً عن الأعينِ مَحبوكة إلى قاعاتِ المَحاكِم.
• • •
ربما احتلت الحَبكةُ كما أسلفت؛ مكانةً ثمينةً في عالم الفنّ والأدب، يتناولها النقَّاد ما عمدوا إلى تحليلَ القصَص والمسرحياتِ والأفلام، ويُفرِد لها الباحثون دراساتٍ مُعمَّقة ما سعوا إلى نيل درجاتهم العلمية المُتخصِّصة؛ أما عن مكانتها في عالم الواقع؛ فأعظم وأهمّ، ولا شك أن أهميتها هذه تتأكد مرةً بعد مرة وواقعة تلو الأخرى، إذ يصطدم المرءُ على مدار يومه بخطابٍ مُهترئ عشوائيّ، يفتقر إلى البناءِ المَحبوك، تتخلَّله ثغراتٌ لا حصر لها، وتتبدَّى فيه مواطنُ ضَعفٍ مُتنوعة يَسهل النفاذُ منها لضحدِه وتفنيده، حتى ليتمنى المُتلقي على مُنتجيه أن يولوه بعضَ العناية، وأن يجتهدوا ولو قليلًا في صياغته وإخراجه؛ عسى أن يصبح قابلًا للهضم دون أن يتسبب في مزيدٍ من العِلل والأمراض.