وَعْدُ القَّهوَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:48 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

وَعْدُ القَّهوَة

نشر فى : الجمعة 1 أكتوبر 2021 - 7:55 م | آخر تحديث : الجمعة 1 أكتوبر 2021 - 7:55 م
أنهيت عملي ذات ليلةٍ في مَوعد مُتأخر؛ ولم يكن بي ميلٌ للعودة مباشرةً إلى البيت. عرجْت في الطريق على متجَرٍ تتلألأ أضواؤه وتعلن أنه على عكس متاجرَ أخرى لم يغلِق أبوابَه بعد. كان بي فضولٌ لتمضيةِ وقتٍ خفيفٍ بعد نهار مُرهِق. عزمت أن أنحيَ أفكاريَ الجادةَ جانبًا فأطالع بروية واسترخاء ما يحوي المتجر مِن بضائع ومُنتَجات.
•••
لم يكُن في الداخل سواي، وقد جلس البائعان بعد انتهاءِ اليوم؛ لا يتوقعان مجيء زبائنَ إضافيين، يبدو عليهما شيءٌ من المللِ، وربما يستعدان بعد بُرهةٍ وجيزةٍ للمُغادرة. فتنتي رائحةُ البن حين دلفت. لم أقاوم رغبتي طويلًا؛ فسألت إن كانوا يصنعون القهوةَ إلى جانب ما يبيعون مِن أصنافها، وإن كانوا يقدمونها في هذا الوقتِ وقد شارفنا على انتصافِ الليل.
رد البائع بالإيجاب فطلبت كوبًا ووقفت أنتظر. دقائق قليلةٌ وناولني البائع قهوتي. تذوَّقت؛ فعرفت أن المواصفاتِ التي رصصتها قد اجتمعت دون زيادةٍ أو نُقصان، وأنها قد امتزَجَت ونَضَجت على أكمل ما يكون.
•••
سألت طامعةً عن المَوعد الذي يفتح فيه المتجر صباحًا؛ فأجابني أحدهما بتمام الثامنة؛ وأَعدت السؤالَ راغبةً في التأكُّد، فأعاد البائع الشابُ الإجابةَ نفسَها، دون أن يستعمل كلماتٍ من قبيل "تقريبًا" أو "في حدود". بدا واثقًا من مَعلوماته حريصًا؛ فقلت إنني سآتي صباحًا لكوبٍ آخر أصطحبه في طريقي إلى العمل. رحت أفكر أثناء خروجي إن كان الكلامُ سيصدق هذه المرة؛ وقد خذلني من قبل كثيرون. حصلت مِن أمكنةٍ أخرى على وعودٍ شبيهة؛ لكنها خابت، ووقفت مرارًا أمام أبوابٍ مُغلقة أنتظر وصول من يفتحها؛ فما نلت مِن وقوفي إلا جرعةَ إحباطٍ في ساعات النهار الأولى، ويئست أغلبَ المراتِ بعدما تجاوزت عقاربُ الساعةِ المَواعيدَ المُقرَّرة، ورحَلْت معظم الأحيان دون قهوتي.
•••
القهوةُ عند كثيرين مفتاح اليوم. إن غابت لم يبدأ، وإن حضرت وطابت طابَ بها واستقام. برائحةِ القهوةِ وحدها يتحاكى العشاقُ، إذ هي قادرة على صنع الأثر المنشود قبل ارتشاف القطراتِ والاستمتاعِ بالمذاق. تُعطي حبوبُ البُن الطازجةِ إيحاءً بالبهجةِ والونس، رائحتها تطيِّب الأجواءَ وتبثُّ الحرارةَ، وتبعث في النفسِ راحةً واستقرارًا في آن. هي رائحةُ الصُحبةِ في وجودِ آخرين، والألفةِ في اختلاءِ المَرءِ بنفسِه، والقدرةِ على إنجازِ الأهدافِ بعزمٍ وإقبال.
•••
توجَّهت للمتجرِ في الثامنةِ إلا خمس دقائق، مُتوجّسةً مِن تكرار تجاربي السابقة التي حنث فيها الواعدون بوعودِهم، مُتوقعةً أن يواجهني القفلُ الحديديُّ المُعتاد، مُحاوِلةً توطين نفسي على الرضاءِ بالنتيجةِ مهمًا كانت ونبذ الغضبِ المُحتمَل؛ فالعادة جَرت عندنا على أن نقولَ، وألا نعني القولَ بمنطوقِه، وأن نفعلَ ما يخالفُه بلا غضاضةٍ ولا استحياء؛ فإن استاءَ أحد تعجَّبنا من استياءِه وألبسناه الخطأ. تأخير دقائقَ لا يُمثل في عرف كثيرين أزمةً، وتأخير نصف ساعةٍ أمر طبيعيٌّ مَقبول، وإذا امتد الأمر لساعةٍ واثنتين فقد يستدعي بعضَ العتابِ لا أكثر.
•••
أوقفت العربةَ ولم أميز إن صحا المكانُ مِن نومِه بعد. خطوتُ بحذرٍ فرأيت البابَ مُواربًا، دفعته فطالعتني شابةٌ هاشة الوجه ألقت إلي بابتسامةٍ لطيفة ورحَّبت بكوني الزائرةَ الأولى. تبادلنا حديثًا قصيرًا يغمره الوِد، وتضاحكنا في براحٍ الخلوّ من زبائنَ كُثرٍ متعجلين، واكتشفت أنها تفتح المتجرَ قبل الثامنة ومثلها يفعل زميلُ الليل عند تبديلِ المُناوبات. انتشيت وقد غَمَرت رائحةُ البُن الفواحة الفضاءَ المُحيط، مدَدت يدي بالنقود فأعلنت أن القهوةَ الصباحيةَ ضيافةٌ واجبةٌ؛ لا يصحُّ رفضُها ولا يجوز. أصرَّت؛ فقبِلت، وقطعتُ أنا هذه المرةَ وعدًا أكيدًا بالعودةِ؛ وعد بقهوةٍ تُدغدِغ الروحَ وتضبطُ الحَواسَ؛ إذ تأتي في مَوعِدها بالتمام.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات