التكامل الاقتصادى العربى حلم يراودنى من قبل أن ألتحق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 1995. حينها كانت قضية الوحدة الاقتصادية ومشروع السوق العربية المشتركة أو الاتحاد الجمركى وغيرها من مشروعات التكامل الاقتصادى عبارة عن حبر على ورق. اليوم وبعد مرور نحو 76 عاما على تأسيس جامعة الدول العربية، حتى ذلك الحبر بدا شاحبا على حفنة أوراق بالية، يدرسها بعض طلّاب المدارس والجامعات كنوع من السرد التاريخى.
الدول العربية لا تنقصها مقوّمات الوحدة الاقتصادية، بل على العكس تتوافر فيها وحدة الثقافة واللغة والتاريخ المشترك وتنوّع عناصر الإنتاج أكثر من أى تجمّع إقليمى فى العالم. إلا أن الحريات الأربع التى وردت بالقرار رقم 17 الصادر عن مجلس الوحدة الاقتصادية العربية عام 1964 بهدف إقامة منطقة تجارية تمهيدا لإقامة سوق عربية مشتركة لم تزل بعيدة المنال. وتتمثّل تلك الحريات فى: حرية انتقال الأشخاص ورءوس الأموال، حرية الإقامة والعمل والاستخدام وممارسة النشاط الاقتصادى، وحرية تبادل البضائع والمنتجات الوطنية والأجنبية، وحرية النقل والترانزيت واستعمال وسائل النقل والمرافق، وحرية التملّك والإيصاء والإرث.
وقد تلقيت منذ أيام دعوة فريدة أحيت بداخلى حلم إقامة نسخة جديدة من التكامل الاقتصادى العربى. فالدعوة التى أرسلها السفير محمّدى النىّ الأمين العام لمجلس الوحدة الاقتصادية التابع لجامعة الدول العربية، تحمل تكليفا لى بعضوية الهيئة الاستشارية العليا للأمانة العامة لمجلس الوحدة الاقتصادية، والاجتماع التأسيسى للهيئة الجديدة انطوى على كثير من الإيجابيات، كان فى مقدمتها التنوّع والمشاركة الفعّالة من جميع الأعضاء الذين جمعوا تاريخا طويلا من العمل الاقتصادى فى مختلف مجالات الاقتصاد، وامتزج فى سيرهم الذاتية المكوّن الأكاديمى بالشق العملى. وقد اختارت الهيئة بالإجماع رئيسا متميزا له بصمات مؤثرة فى مجالات الزراعة والصناعة والبحث العلمى وهو الدكتور أحمد أبو اليزيد رئيس مجلس إدارة شركة الدلتا للسكر، والذى يدين له مجلس الوحدة الاقتصادية بفضل التنسيق لإقامة تلك الهيئة الاستشارية العليا التى تنعقد عليها الآمال.
•••
ولأن الدول المنتمية إلى إقليم معيّن تسعى من تكوين تجمّع إقليمى فيما بينها إلى تحقيق غايات متشابهة، تدور مع معالجة مشكلات ذات طبيعة متماثلة، على نحو يساعدها على تحسين أوضاعها، وتفادى نزاعات تحول دون استباب السلام فيما بينها، فقد يتوقف هذا التجمّع عند حد التعاون على حل القضايا أو بلوغ الأهداف ذات الطابع المشترك كما يحدث الآن بين كثير من الدول العربية. أو قد يتخذ شكل تكامل إقليمى يتناول تطويرا للعلاقات البينية إلى أن يصل إلى حد الاندماج التام أو الوحدة الاقتصادية والذى تقدّمت فيه مجموعة الدول الأعضاء فى مجلس التعاون الخليجى إلى حد ما، وإن ظلت بعيدة عن نموذج الاتحاد الأوروبى الذى تمكّن من إصدار عملة موحّدة وتأشيرة دخول مشتركة. وإذا كانت التباينات فى القدرات الاقتصادية وفى قواعد تقسيم العمل الدولى قد وقفت حائلا دون التكافؤ فى تحقيق المكاسب من حرية التبادل التجارى العالمى، الأمر الذى عانت منه الدول النامية وحرمها من الحصول على نصيب عادل من عنصر رأس المال، فإن الإقليمية الجديدة تمهّد لصيغة مختلفة تجمع بين التعاون والتكامل من ناحية وبين دول متفاوتة فى مراحل ومعدلات النمو، بل وفى قواعدها الثقافية والاجتماعية من ناحية أخرى. لكن الإقليمية الجديدة (نسبيا) تقف عند حد إقامة مناطق حرة للتجارة، وتسمح بحرية حركة رءوس الأموال، ولا تطمح إلى تكوين وحدة اقتصادية تذوب فيها القوميات وتتلاشى الحدود بين الدول.
وقد تأسس مجلس الوحدة الاقتصادية العربية فى 3 يونيو عام 1957 بالقاهرة، ويضم فى عضويته اليوم تسعة أعضاء هى: مصر، والسودان، وسوريا، والصومال، والعراق، وفلسطين، وموريتانيا، واليمن، والأردن. ولأن الركب مازال متوقفا منذ تأسيس مجلس الوحدة الاقتصادية العربية، مع تقدير جميع الجهود السابقة لتطوير صيغ التعاون العربى البينى، فإنه يتعين علينا قبل أى شىء البحث فى أسباب إخفاق الدول الأعضاء فى التوصّل إلى أية صيغة مستهدفة للتكامل الإقليمى. كما ينبغى دراسة مبررات عزوف سائر الدول العربية دون الالتحاق بركب مجلس الوحدة، علما بأن دول الفائض فى رأس المال مازالت غائبة عن التشكيل وهو ما يعزز من إخفاق تجارب التكامل.
ونظرا لطبيعة التدفق المعلوماتى وسرعة التراكم المعرفى التى يمتاز بها عصرنا الراهن، ونظرا لعجز التجارب السابقة المؤسسة على دراسة فرص التكامل العربى على أسس من التقسيم القطاعى للنشاط الاقتصادى، فإن المنهج الأكثر مرونة والأسرع نفاذا إلى الهدف يمكن تأسيسه على «المشروعات القاطرة». وأعنى بذلك مشاركة الدولة وممثلى القطاع الخاص بالدول الأعضاء فى إطلاق عدد من المشروعات الإقليمية الكبرى المشتركة، التى تصلح قاطرة للنمو الاقتصادى بمجموعة الدول المساهمة فيه، وتصلح أيضا كدعامة لتوسيع نطاق التعاون الاقتصادى الإقليمى على نحو متكافئ.
•••
المشروع القاطرة يجب أن تتوافر فيه مزايا الحجم الكبير من حيث عناصر الإنتاج المختلفة وفى مقدمتها العمل ورأس المال. ويتميز أيضا بكونه يوظّف المزايا النسبية للدول المساهمة على نحو فعّال ومتزن إلى أقصى حد ممكن، وأن تتشابك فى إطاره سلاسل الإمداد بشكل يسمح بتكوين شبكات عنقودية من المشروعات القاطرة حتى تصير فى مجملها كيانا إقليميا كبيرا يفوق فى حجمه اقتصادات كثير من الدول.
وإذا كان معرض إكسبو 2020 فى دبى يمثل فرصة ونافذة نادرا ما تتكرر فى هذا الإقليم، ويقام على أرض دولة عربية تتمتع بكثير من مزايا الترابط الخدمى والتجارى مع مختلف دول العالم، فإن المعرض الذى يستمر حتى أبريل من العام القادم يمكن أن يشهد تأسيس عدد من تلك المشروعات والبناء عليها فى المستقبل.
مشروع منطقة «نيوم» الاستثمارية نموذج للمشروعات العربية القاطرة. وتبلغ تكلفة المشروع حوالى 500 مليار دولار، ويقع على البحر الأحمر وخليج العقبة بمساحة إجمالية تصل إلى 26500 كيلومتر مربع حيث يمتد من شمال غربى المملكة العربية السعودية ويشتمل على أراض داخل الحدود المصرية والأردنية. وقد أنشأت السعودية ومصر صندوقا مشتركا بقيمة عشرة مليارات دولار لتطوير أراض على مساحة تزيد على ألف كيلومتر مربع فى جنوب سيناء ضمن مشروع نيوم، ومن المقرر أن يركز المشروع على تسعة قطاعات استثمارية متخصصة، وأن يعتمد على مصادر الطاقة المتجددة فقط. ومن المستهدف قيام المشروع كمنطقة استثمار خاصة مستثناة من أنظمة وقوانين الدولة الاعتيادية، كالضرائب والجمارك وقوانين العمل والقيود الأخرى على الأعمال التجارية، ما عدا الأنظمة السيادية. ويخطط انتهاء المرحلة الأولى من المشروع فى عام 2025، ومن المتوقع إتمام المشروع خلال فترة تتراوح بين 30 و50 عاما وفقا لتصريحات مسئولين سعوديين لوكالة رويترز.
كذلك تصلح البورصة العربية المشتركة مشروعا قائدا لصور التكامل الاقتصادى فى مجالات الاستثمار والتمويل وحركة رءوس الأموال والتخارج من المشروعات... ويمكن أن تنشأ بها منصة للأوراق المالية، وأخرى للسلع والخدمات، وثالثة للمشتقات.
بهذا يمكن للدول العربية أن تتفادى الكثير من قيود التكامل الاقتصادى الناشئة عن تماثل هياكلها الإنتاجية المتجهة فى الغالب إلى إشباع الطلب المحلى، وتشابه قوائم صادراتها من المواد الأولية بما يجعلها عرضة للمنافسة عوضا عن التكامل... كما تضع تلك المشروعات القاطرة القائدة زمام الأمور فى يد أصحاب المصالح من القطاع الخاص إلى جانب مؤسسات الدولة، حتى لا تنفرد الأخيرة بتغليب العوامل السياسية على أية اعتبارات أخرى، وهو ما تسبب فى فشل كل محاولات التكامل العربى السابقة.
كاتب ومحلل اقتصادى