الصباح كان غائما وباردا، وقد ذاب الثلج فملأ شوارع المدينة بالماء. لا أعرف ما دفعنى للخروج بشكل بدا طارئا لكن فى الحقيقة لم يكن هناك ما يستدعى الاستعجال. مرت بقربى سيارة سمعت نغمات تخرج منها رغم شبابيكها المغلقة. كان وديع الصافى يغنى «طلوا أحبابنا طلوا، نسم يا هوا بلادى». مشيت حتى بائع الفلافل والحمص وأنا أدندن «بين ربوعنا حلوا وضحكت زهرات الوادى». كنت شبه متأكدة أننى فى دمشق، ولست فى عمان حيث أعيش مع عائلتى. هناك روائح تذكر بالبلد، كرائحة صباح غائم بعد العاصفة ورائحة مازوت التدفئة ورائحة قلى الفلافل، جميعها تصرخ «صباح الخير».
• • •
الأخبار من دمشق حزينة كحزن مدينة لا يستطيع معظم سكانها تأمين أبسط احتياجاتهم من دفء وقوت. لذا فحين أمشى فى مدينة أعيش فيها أدندن كلمات ترمينى فى مدينتى، أشعر أن تلك المدينة التى أغنيها وأشمها لم تعد موجودة. أو ربما هو البعد والعمر اللذان يفرضان نوعا من العلاقة بالأماكن يطغى عليها الشجن والشوق.
• • •
أتمشى فى شوارع عمان ذات صباح بارد وغائم فى يدى حبة فلافل من صاحب الدكان الذى وقفت لأتحدث معه فلا أحد غيرى فى الشارع وها نحن تبادلنا السلام والاطمئنان وأكملت طريقى وأنا أحاول أن أفكك شعورا بالشوق لا أريده أن يكون رومانسيا فقط، أى لا أريد أن أحن إلى أزمان جميلة أعرف اليوم حق المعرفة أنها لم تكن جميلة بالمطلق. أقارن شعورى المركب بقصص أسمعها من أصدقاء عاشوا مراحل سبقتنى أراها اليوم خائبة إنما يصفونها هم بأنها كانت جميلة.
• • •
أعى إذا أننى، مثلهم، أى أصدقائى، دخلت مرحلة حنين لمراحل لم تعد موجودة أو مراحل قررت اليوم، مع ما أملكه من مواقف ومعلومات أنها كانت خائبة لكننى أحن إلى أشخاص ومناسبات وأشياء فيها. أتقبل أن الحنين يخترق خيارات حاسمة ويفرض حزنا على صداقات فقدتها وأشخاص عندى أسباب مقنعة للتوقف عن التعاطى معهم. ثم يأتى صباح غائم يكاد أن يكون دمشقيا ببرده ورائحته وبطعم قرص من الفلافل يعطينى إياه البائع فأرتمى فى لحظة قديمة عمرها عشرين سنة وأغنى كلمات تحملنى إلى عالم ربما هو متخيل أصلا من جبال ووديان ومناسبات عائلية واجتماعية لن تتكرر اليوم.
• • •
هناك، فى مكان دفين فى القلب وفى الذاكرة، ما زال يجلس أشخاص من أزمنة مضت، كانوا قريبين جدا منى ولم يعودوا اليوم جزءا من حياتى لأسباب مختلفة. قد لا أتوق لرؤيتهم أصلا اليوم لكن فى لحظات يطغى فيها الحنين على المنطق، أعود إلى صباح ماطر فى مدينة ما زالت تسكننى دون أن أعترف، تظهر حارة منها إلى سطح الذاكرة فى يوم غائم لا يمكن أن يكون إلا يوما دمشقيا وها أنا أقبل ضيافة من البائع وأعود مراهقة تمشى من درس اللغات إلى البيت مشيا على الأقدام فتسحبها رائحة الفلافل إلى حارة جانبية بعماراتها الحجرية ورائحة المازوت التى تلصق بالجهاز التنفسى فتظهر هنا، اليوم، فى عمان وأنا سيدة وأم لمراهقين.
• • •
كيف أشرح لأطفالى أن ثمة بلدا يعيد نصف سكانه ترميمه فى قلوبهم أو يحاولون طى صفحته حتى يتمكنوا من المضى فى حياتهم؟ أريد أن يفهم أولادى أننى أعدت التفكير فى علاقتى مع الوطن والدولة والحريات وحقوقى كإنسانة، أو فى كثير من إعادة التفكير كنت أتوقف عند عدم عقلانية شوق يفاجئنى عند ناصية شارع لا تربطه أى علاقة بالشام! هكذا تنهال على دمشق دون إنذار وأعود فى مكان لا سياسة فيه، وكأننى نقحته فى قلبى ووضعته فى مساحة أمان لا أريد ربطها بنظام سياسى أو بثورة أو بحرب. هى ثوانٍ معدودة لا سياسة فيها إذ تغمرنى سعادة غير متوقعة فى الشارع فى يوم عادى لأننى أشعر أننى هناك.
• • •
أتلقى هدية من صديقة، أفتح العلبة وأشم رائحة البلد. أقراص العيد بلونها الأسمر ونقشة وجهها وكأنها وشم على وجه جدة. أمسك قرص البلد بيدى فـأشم رائحة التراب بعد المطر ورائحة مدفأة على الحطب وحبوب اليانسون والهال تطحنهما يد بمدق من الخشب. تتسلل البلد إذا من فتحات صغيرة فى القلب، كمن ينظر إلى الشمس من خلال سقف مهترئ فيه ثقوب تلعب فى ظلمة الغرفة، أو ظلمة قلبى. «البلاد» كما يسميها أهل فلسطين، هى ذلك المكان الذى يجتاح لحظتى فيشعرنى بالثمل حين أمسك قرص العيد التى أرسلته لى صديقة. أقضم القرص فأقضم البلد وتدخل إلى أنفى وفمى وأنا أستنشق رائحة الصباح والغيم والحطب.
• • •
هنا، حيث أقف اليوم، أمسك البلد فى يدى وأتصالح مع صديق يتمنى لى عاما سعيدا. هو تصالح أنى قصيرة العمر فما يفرقنا بات مستحيلا تجاوزه. لكنى فى هذه اللحظة أعود إلى زاوية فى دمشق ضحكنا فيها معا على موقف تذكرته الآن واشتقت لنفسى كما كنت حينها. لحظة يصعقنى فيها الشوق فأتنفس بعمق وأعترف أن الشوق مؤلم وأن الحارة والرائحة وكلمات الأغنية قد يظهرن دون استئذان فى مكان دفين فى قلبى.