لم يَكُف الصَّغير عن القفزِ والحَركة، ولما أمرته أمُّه بالقعود، تذمَّر وراح يصيح كي تتركَه يَلعَب. زعقَت نافدةَ الصَّبر: اكتُم بقى.. اكتُم خالص؛ لكن زعقتَها ضاعَفَت من اعتراضِه، ولم يكُن مِن حَل سوى أن تجذبه بعيدًا عن المنتظرين؛ فأغلبُ الناسِ قد بَلغ بهم الضِّيقُ ذؤابةَ الأنوف، وجعلوا بدورهم يتأفَّفون، وقد بَدَت صالةُ المصرَف الوَاسعةَ في حالٍ من الغَليان.
• • •
يأتي الكتمانُ في قواميس اللغةِ العرَبيَّة كأحد مَصادر الفعل كَتَم؛ أيّ حَفَظَ وسَتَر. الفاعلُ هو الكاتِمُ والمَفعول به مَكتوم، أما الكَّتوم بتشديد الكاف؛ فصيغةُ مُبالغةٍ واسعةِ الاستخدام. كَتْم الأحداثِ الشَّخصيَّة التي تتمتَّع بقدرٍ من الحَساسيَّة؛ حمايةٌ ومُواراة. صَونٌ لما يجب صَونُه، ودرءٌ للقِيل والقال ولتدخُّلاتٍ غير مَرغوبة مِن آخرين يدسُّون أنوفَهم فيما لا يخصُّهم. غالبًا ما يرتبطُ الفعلُ في أحاديثنا بوُجود سِرٍّ يُخشَى عليه أن يُذاعَ في الملأ؛ ولإن تكاثَرت الأسرارُ؛ باتت مَنبعًا للأرق وباعِثًا على قلق لا يزول.
• • •
كثيرًا ما يأتي السؤال: فيك مَن يكتم السِرَّ؟ والعادة أن يكون الردُّ بالإيجاب، وبتأكيدات متوالية على أن هذا الاعترافَ الوَشيك سيكون في أمانٍ تام؛ لكن الطمأنةَ الظاهرةَ قد تعكسُ وحَسب رغبةً مُلِحَّة في المَعرفة؛ فما من أحد يقاوم فضولَه إزاءَ كَشفِ الأسرار، وما مِن أحدٍ يُدير ظهرَه أمامَ المَخفيّ الذي لا يَدري به الآخرون.
• • •
ما أكثرَ ما أفضى امرؤٌ بمكنون صدره لمَن لا يُؤتَمن ثم إذا به على الألسنةِ شائع؛ وفي هذا يقول كعبُ بن زهير: لا تُفش سِرَّك إلا عند ذي ثِقة.. أولا فأفضل ما استودعت أسرارا.. صدرًا رحيبًا وقلبًا واسعًا صمتًا.. لم تخشَ منه لما استودعت إظهارا، وفي السِّياق ذاته يقول أبو الأسود الدؤلي: أمنتُ على الِسِّر امرءً غير حازمٍ.. ولكنه في النِّصح غيرُ مريب.. أذاع به في الناسِ حتى كأنه.. بعلياءِ نارٌ أوقِدَت لثقوب. وأما في حفظ السِّر فقد قال اليزيديّ يَصِف حالَه: النَّجمُ أقربُ مِن سِرٍّ إذا اشتملت.. مني على السِرِّ أحشاءٌ وأضلاع، وعلى دينِه قال بشَّار بن بُرد: وللسِّر فيما بين جنبي مَكمن.. خفيٌ قصيٌ عن مدارج أنفاسي.. كأني من فرط احتفاظي أضعته.. فبعضي له راعٍ وبعضي له ناسي.
• • •
يقال دومًا إن خرج السِرُّ عن اثنين إنه لم يَعُد سرًّا؛ وكأن الأزمة في ثالثهم أو رابعهم أيًّا ما كانت طباعُه، والحقُّ أن المَثلَ الشعبيّ: "اللي يطلع من الراس يوصل للناس"، يبدو صحيحًا إلى حدٍّ بَعيد، فالسِرُّ ما غادرَ صاحبَه فَقَدَ قُدسيتَه وحُصونَه.
• • •
الكتمانُ والإفشاءُ نَقيضان، أولهما مُحبَّذ وثانيهما ذَميم؛ لكن الحُكمَ على الأمورِ لا يَستقيم إن لم يُؤخَذ السِّياقُ بعين الاعتبار؛ فرُبَّ امرئ تعرَّض إلى ما لا يُطيق بَشَر ليفشيَ ما أبطن، وآخر تكتَّم على أذى يطال الناسَ ليحفظَ مَغانمَه. قد يُغفَر للأول ذنبُه ويُدان الثاني بما اقترفت يداه.
• • •
كواتم الصوت مُتعدِّدة الأغراض مُختلفة التكوين؛ منها ما يُستخدَم مع الأسلحة النارية كي لا يُحدِث إطلاقُ النار جَلَبَة، ومنها ما يُخفِّف من الضَجَّة الناتجةِ عن احتراقِ وَقود السيارات، ومنها أيضًا ما يستعمله عازفو الوتريَّات مثل الكَّمان وبعض الآلات الموسيقية الأخرى؛ كي يتجنبوا إقلاقَ النَّاس من حولهم، وما بين الرَّصاصِ والعَوادِم والنَّغمات مسافاتٌ كبيرة.
• • •
الكتم بطبيعته أقوى من الحِفظ والحَجب وما مثلها من مُفردات، وغالبًا ما يؤدي البخار المَكتومُ للانفجار ما لم يَجد متنفسًا، وعلى غراره تصنع المَشاعر المكتومة بالناس؛ فتدفعهم ما برحوا يحبسونها إلى مسالك صاخبة وربما عنيفة.
• • •
في قديم الزمن كان حاجبُ السِرِّ في البلاط السلطانيّ متمتعًا بالثقة التامة؛ يكتم ما يرى ويسمع، ويَضِّن بما يدرك ويفهم؛ وإذ يقول المثل الشعبي القديم سِرَّك من دَمك، فربما كان القصد من ورائه أن هذا الذي يحمل السِرَّ بحكم وظيفته؛ مُعرَّض لإراقة دمه ما خان العهد وأفصح.
• • •
قد لا يتمَكَّن الشَّخصُ مُنبسِط المزاج، المُنفتح على الحياة والناس؛ من إخفاءِ ما أبطن من أسرارٍ لفترةٍ طويلة، حتى ولو تعهَّد بحفظها؛ فطبيعتُه تغلبُه ورغبتُه في الحَكي تفوقُ ما عداها، أما الشَّخص الكَّتوم المُنطوي بطبعه؛ فبئرٌ عميقةٌ في قاعها خبايا قد لا يتأتى الوصول إليها ما حَيا. كتمانُ الهَمِّ يُورِث العِلل، وأكم مِن امرئ حمل في نفسِه أثقالًا وأبي أن يُشرِكَ فيها مَن حوله فسقط على أثرها مريضًا، بقيَت في قَرارٍ مَكين، ومَضى هو إلى مصيره.
• • •
في مَطلع الخمسينيَّات قدَّم عبد الوهاب أغنيته العذبة "النهر الخالد"، من ألحانه وكلمات الشاعر محمود حسن اسماعيل. تمضي المَقاطعُ عامرةً بالاستعاراتِ والكِّنايات البليغة وفيها يقول: "آه على سِرِّك الرَّهيب"، قاصدًا ما تكتَّم النيلُ من جوانبِ الحضَارةِ المِصريَّة القديمة وما حافظ عليه لآلاف السنين.