إذا كان هناك من بصيص أمل لإحياء الحركة الديمقراطية المصرية، فإنه يظل معقودا على منظمات المجتمع المدنى المستقلة والمجموعات العمالية والطلابية والشبابية التى تدافع عن حرية التنظيم وحرية التعبير وحقوق الإنسان فى أجواء قمعية بالغة القسوة. غير أن تلك المنظمات والمجموعات لن تخرج من الوهن الذى تلحقه بها الضربات الأمنية المتلاحقة والقيود القانونية المتصاعدة ما لم تبحث عن مساحات جديدة لفعلها وتقم بتحديث أدواتها.
فمنظمات المجتمع المدنى، على سبيل المثال، تجتهد لرصد انتهاكات الحريات والحقوق وتوثقها فى تقارير دورية. تفعل ذلك منظمات كالشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان والمبادرة المصرية للحقوق الشخصية ومركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب (حتى أغلقته السلطات فى ٢٠١٧) والمركز المصرى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، تفعله إيمانا منها بضرورة إيصال صوت الضحايا إلى الرأى العام ورغبة منها فى ممارسة الرقابة على الحكومة وتفعيل أعمال مساءلة ومحاسبة الجهات الحكومية المتورطة فى الانتهاكات. على الرغم من الأهمية المجتمعية والسياسية القصوى للرصد والتوثيق والنشر فضلا عن شرعيتها الأخلاقية، إلا أن قطاعات واسعة من الرأى العام فى مصر لم تعد تهتم بمعرفة واقع الحريات والحقوق وصارت عازفة عن التعاطف مع ضحايا الانتهاكات إما تحت وطأة الأزمات المعيشية أو تصديقا لخطاب الإنكار الحكومى بصددها. أما الحكومة، فهى تراوح بين إنكار حدوث انتهاكات وبين الاعتراف بوقوع انتهاكات فردية ليست ممنهجة. وترفض فى جميع الأحوال الخضوع لمساءلة ومحاسبة منظمات المجتمع المدنى، بل هى تتعالى على مجرد التواصل معها وقبول الشروع فى حوار جاد بصدد سبل إيقاف الانتهاكات ومنع الإفلات من العقاب.
***
إزاء عزوف الرأى العام واستعلاء الحكومة ليس أمام منظمات المجتمع المدنى سوى المزج بين الاهتمام بالحريات والحقوق المدنية والسياسية وبين الانفتاح على قضايا الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التى تكافح الأغلبية الساحقة من المصريات والمصريين لضمانها. فى ظل معدلات الفقر والبطالة والتضخم المرتفعة ومع اضطرار الحكومة لتطبيق سياسات الإصلاح الهيكلى وفقا لاتفاقها مع صندوق النقد الدولى الذى يلزم على سبيل المثال بتعويم الجنيه وإلغاء الدعم على المحروقات، تتعاظم معاناة الفئات الفقيرة والمتوسطة وتأتى حقوق كالحق فى العمل والحق فى المسكن اللائق والحق فى الظروف المعيشية الكريمة والحق فى التأمينات الاجتماعية فى صدارة أولويات الناس. ما لم تنفتح منظمات المجتمع المدنى على قضايا الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وتشتبك مع السياسات الحكومية، سيتواصل العجز عن إنهاء عزوف الرأى العام وستتمادى الحكومة فى خليط الإنكار والاستعلاء.
***
يتعين على منظمات المجتمع المدنى فيما خص خطابها العلنى الرافض لانتهاكات الحريات والحقوق أن تنتقل من عموميات تقريظ الجهات الحكومية المتورطة فى الانتهاكات إلى اقتراح سياسات وممارسات بديلة من شأنها إيقافها. تعديلات قانونية، إجراءات للمساءلة والمحاسبة، إجراءات لتفعيل الرقابة والتوازن بين السلطات، برامج لتأهيل ضباط وجنود الشرطة، برامج لتوعية الرأى العام وشرح الأخطار الناجمة عن الانتهاكات، هذه وغيرها من السياسات والممارسات البديلة يمكن لمنظمات المجتمع المدنى العمل على صياغتها وتدقيقها وتكرار الدعوة للحكومة للشروع فى حوار جاد حولها وحول مجمل قضايا الحريات والحقوق. وإن تمسكت الحكومة بخليط الإنكار والاستعلاء وغابت عنها إرادة إيقاف الانتهاكات والامتناع عن قمع المواطن والمجتمع، يستطيع المجتمع المدنى إثارة شىء من النقاش العام حول قضايا كالمحاكمات العسكرية للمدنيين وضوابط إعلان حالة الطوارئ وتعديلات قوانين التظاهر والجمعيات الأهلية وغيرها.
أما المجموعات العمالية والطلابية والشبابية، وهنا يمتد العمود الفقرى للحركة الديمقراطية المصرية، فلم تعد قادرة على الاهتمام بالقضايا السياسية الكبرى بجانب اشتباكها المستمر مع أمور كالحريات النقابية والحق فى الإضراب وضمانات حرية التنظيم وحرية التعبير عن الرأى فى الجامعات وحماية الشباب المعارض للحكومة من التعقب الأمنى ومن الممارسات القمعية. والأجدى للعمال والطلاب والشباب هو التركيز على أمورهم المباشرة، والسعى لبناء توافق عام مساند لهم ومتفهم لمطالبهم المشروعة وغير مستعد للخلط الظالم بينهم وبين جماعات وعصابات الإرهاب والعنف التى لا تريد غير الدماء والدمار. توافق عام كهذا لن يلزم على سبيل المثال المتعاطفون مع مطالب العمال بمعارضة شاملة للحكومة، وسيعفى المجموعات الطلابية من أعباء تجاوز حرم الجامعة، وسيجبر الحكومة على الحوار مع الشباب.