تتمتع تطورات الذكاء الاصطناعى بإمكانات كبيرة فى تحسين مجالات مثل العلوم والصحة، وتغيير طريقة العمل والتعليم، بالإضافة لتطبيقاتها فى علم الأحياء التى أسهمت فى حل مشكلة طى البروتين وتطوير الأدوية. لكن انتشار تطبيقات الذكاء الاصطناعى فى الهندسة البيولوجية يثير خطرا، حيث قد تستخدمه جهات ذات نيات سيئة لإحداث تأثيرات مدمرة. كما تناولت الأدبيات فإن نماذج اللغة الكبيرة (LLMs) مثل «تشات جى بى تى»، بالإضافة إلى أدوات التصميم البيولوجى المدعومة بالذكاء الاصطناعى، قد تزيد بشكل كبير من المخاطر المرتبطة بالأسلحة البيولوجية والإرهاب البيولوجى.
النماذج اللغوية الكبيرة قد تسهم بشكل خاص فى زيادة إمكانية الوصول إلى الأسلحة البيولوجية. ففى تمرين حديث أُقيم فى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، استغرق برنامج «تشات جى بى تى» ساعة واحدة فقط لإرشاد طلاب غير متخصصين فى العلوم حول مسببات الأمراض الوبائية المحتملة، موضحا الخيارات المتاحة لطرق اكتسابها من قبل أى شخص يفتقر إلى المهارات اللازمة لإنشائها فى المختبر.
إلى أى مدى يمكن أن يتعلم المرء من مساعد مختبر يعتمد على الذكاء الاصطناعى فقط؟ فى نهاية المطاف، لصنع مسببات الأمراض أو الأسلحة البيولوجية، لا يتطلب الأمر فقط المعرفة النظرية التى يمكن لمستخدم نماذج اللغة الكبيرة تقديمها، بل يحتاج أيضا إلى معرفة ضمنية عملية. من الصعب تحديد مدى تأثير هذا «الحاجز المعرفى الضمنى» ومدى قدرة برامج مثل «تشات جى بى تى» على تقليصه؛ ومع ذلك، هناك حقيقة واضحة: إذا جعلت برامج الدردشة الآلية والمساعدون المدعومون بالذكاء الاصطناعى عملية إنشاء وتعديل العوامل البيولوجية أكثر سهولة، فمن المحتمل أن يحاول المزيد من الأفراد القيام بذلك. وكلما زاد عدد المحاولات زادت احتمالية نجاح البعض فى النهاية.
• • •
مع التقدم السريع فى تقنيات الذكاء الاصطناعى لم يعد الإرهاب البيولوجى والكيميائى مجرد تهديد نظرى، بل أصبح احتمالاً متزايد الخطورة. إن توافر نماذج الذكاء الاصطناعى المتقدمة قد يفتح الباب أمام فاعلين غير حكوميين، لاستغلال هذه التقنيات فى تطوير أسلحة فتاكة بسهولة غير مسبوقة.
• ديمقراطية الوصول إلى التكنولوجيا: يمكن أن تصبح المواد العلمية التجريبية أدوات قوية فى أيدى الجهات الخبيثة، حيث توفر وسيلة لنقل معلومات يصعب العثور عليها، لكنها متاحة للجمهور بنقرة زر واحدة. قد تؤدى هذه «الديمقراطية» فى الوصول إلى المعرفة العلمية المتعلقة بتصنيع الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية إلى تعزيز فعالية الأنشطة الإرهابية بشكل كبير.
• أجهزة تخليق الحمض النووى والتقنيات الناشئة المبتكرة: تُظهر التطورات فى إنتاج الحمض النووى الاصطناعى كيف تواصل التقنيات الناشئة تغيير مشهد المخاطر. حاليا، يُراجع معظم مزودى خدمات تخليق الحمض النووى عملاءهم وطلبات التخليق بشكل طوعى، لكن الجيل الجديد من أجهزة التخليق المكتبية قد يغير هذا الوضع. هذه الأجهزة تمكن المختبرات من طباعة الحمض النووى دون الاعتماد على المزودين التجاريين؛ مما يصعب مراقبة الإنتاج. مع تحسن التكنولوجيا، قد يتمكن الأفراد أو المجموعات الصغيرة من الوصول إلى قدرات كانت محصورة فى الحكومات والمختبرات المتقدمة؛ مما يقلل الحواجز أمام الجهات الفاعلة فى هندسة مسببات الأمراض ويزيد من خطر الأوبئة.
• أدوات التصميم البيولوجى: بينما قد تسهم نماذج اللغة الكبيرة فى تعزيز حدود قدرات التصميم البيولوجى فى المستقبل؛ فإن أدوات الذكاء الاصطناعى المتخصصة تحقق ذلك بالفعل فى الوقت الراهن. تشمل هذه الأدوات نماذج طى البروتين مثل AlphaFold2 وأدوات تصميم البروتين مثل RFdiffusion. يتم تدريب هذه الأدوات عادةً على بيانات بيولوجية، مثل التسلسلات الجينية. وقد تم تطويرها من قبل العديد من الشركات والباحثين الأكاديميين لمواجهة التحديات الكبرى فى مجال التصميم البيولوجى، مثل: تطوير الأجسام المضادة العلاجية. ومع تزايد قدرة هذه الأدوات؛ فإنها ستتيح تحقيق العديد من الإنجازات المفيدة، مثل ابتكار أدوية جديدة تعتمد على بروتينات مبتكرة أو تصميم فيروسات مخصصة.
• • •
ما الذى يمكن فعله للحد من المخاطر الناشئة عن تقاطع الذكاء الاصطناعى مع البيولوجيا؟ هناك جانبان رئيسيان يجب التركيز عليهما: تعزيز تدابير الأمن البيولوجى العامة وتطوير استراتيجيات لتخفيف المخاطر المرتبطة بأنظمة الذكاء الاصطناعى الجديدة.
• تدابير الأمن البيولوجى: فى مواجهة القدرات المتزايدة لتصميم البيولوجيا، يُعد فحص تخليق الجينات الشامل خطوة أساسية للأمن البيولوجى. يتمثل التحدى فى إنتاج اللبنات الجينية الأساسية التى تحول التصاميم الرقمية إلى عوامل مادية، وهناك شركات متخصصة فى ذلك.
نحتاج إلى قاعدة إلزامية لفحص منتجات الحمض النووى الاصطناعى، وهى لا تتعارض مع مصالح الشركات، حيث كانت الشركات الرائدة فى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تقوم بذلك طواعية وتدعو إلى وضع قاعدة تنظيمية لضمان السلامة. ويجب أن تشمل هذه القاعدة أجهزة تخليق الجينات المنتشرة وأن تكون مرنة لتشمل فحص العوامل المثيرة للقلق.
• تعزيز حوكمة الذكاء الاصطناعى: إلى جانب تدابير الأمن البيولوجى العامة، هناك حاجة لتدخلات خاصة بالذكاء الاصطناعى، مع التركيز على تخفيف المخاطر المرتبطة بنماذج اللغة الكبيرة. فهذه النماذج قد تسهم فى تقليل الحواجز لإساءة الاستخدام البيولوجى وتطور قدراتها بسرعة. من التحديات الرئيسة أن القدرات الخطرة قد لا تظهر إلا بعد إصدار النموذج؛ لذلك، التقييمات المبدئية ضرورية لضمان أن النماذج لا تحتوى على قدرات خطرة عند إصدارها، وينبغى أن تتم من قبل جهة مستقلة لضمان اتخاذ الشركات التدابير اللازمة.
ختاما، مع تزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعى فى مختلف المجالات، يصبح من الضرورى مواجهة التحديات التى قد تنشأ عن إساءة استخدام هذه التقنيات، خاصة فى مجالات مثل الهندسة البيولوجية والأسلحة الكيميائية. ورغم أن التطورات الحديثة فى نماذج اللغة الكبيرة وأدوات التصميم البيولوجى قد فتحت آفاقا جديدة للعلوم والصحة؛ فإنها فى الوقت ذاته تحمل تهديدات وجودية إذا وقعت فى الأيدى الخطأ. فالتحرك السريع من صناع السياسات يعزز السلامة ويتيح الاستفادة من مزايا الذكاء الاصطناعى.
مروة صبحى منتصر
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة