وقف الرجل وسط أنقاض حياته يردد «بدى عيش» بينما انهمك من حوله فى محاولتهم للبحث عن أشلاء حيواتهم بين الدمار. رجال وبعض النساء ممن كانوا يوما جيرانا فى عمارة سكنية سقطت تحت القصف فى غزة، يتحركون بين الأحجار المتراكمة علهم يعثرون على أى أثر يدل على سنواتهم فى العمارة. أما الرجل فهو يقف أمام كوم من الحجر يردد «بدى عيش».
***
عاش الرجل وماتت أسرته، فقد الزوجة وأولاده الأربعة وبقى طفله الأصغر حيا. خرج الرجل فى تلك الليلة المشئومة لشراء بعض الحاجيات ثم عاد ليجد حياته بأسرها قد تفتت. لا يعرف الرجل اليوم إن كان قد غلط فى خروجه لشراء حاجيات قبل العيد، فلو لم يخرج لكان لقى حتفه هو الآخر وربما تجنب ألم استمراره بالعيش بعد أن ماتت الأسرة.
***
الحق فى الحياة أساس الحقوق كلها. وحين يردد الرجل «بدى عيش» فهو فعليا لا يطالب بالكثير! هو فقط يطلب أن يستيقظ فى الصباح ليحسس على جسده ويجده سليما. يطلب أن يسمع صوت زوجته تتحدث مع الأولاد فى غرفتهم. يطلب أن يعد طعام الإفطار فتلتف الأسرة حول الطاولة ويخطف ولد بيضة مسلوقة من يد أخته وتزعل فتتدخل الأم لضبط الموقف، إذ لا وقت لديهم ليضيعونه فى صباح مكتظ ككل الصباحات يجب أن يذهب فيه الأولاد إلى المدرسة. أما الصغير آخر العنقود فها هو يحاول الوقوف مستندا إلى كرسى الأب، فهذا أسبوعه الأول على قدمين بدل أربعة، يمسك بيده قطعة من الخبز أخذها من على طرف الطاولة.
***
«بدى عيش» يردد الرجل وهو ينظر إلى حياته التى تبخرت، لا يتحرك كغيره ممن سكنوا العمارة، يقف وسط الركام فى ذهول رغم مضى عدة أيام على الكارثة، لم يمتص الصدمة بعد فهو يردد «بدى عيش» وفى عينيه مزيج من عدم التصديق والحيرة والضياع.
***
أحاول أن أتخيل صباحا انقلبت فيه دنياى وانسحب من حولى من أحب دون عودة. أضع نفسى مكان الرجل فيكاد أن ينقطع نفسى فى الفراغ وظلمة الفقدان. لم يرحل من أحب دون عودة فقط، إنما لم يعد للبيت الذى احتوانا أثر، فكأن ما مضى لم يكن، وكأنى مجنونة تردد قصصا عن عائلة وغرفة جلوس وعشاء للأولاد أمام أشخاص لم يعرفوا الأولاد ولا يرون البيت ويتعاملون معى بحذر.
***
أن يفقد شخص كل ما يملك هو فاجعة لا أعرف إن كان من الممكن التغلب عليها، وأن يفقد عائلته فمن شأنه أن يفقده عقله. أتساءل كثيرا عن تلك القدرة الهائلة التى ألمسها عند البعض حين يواجهون مصيبة فيسلمون بقدرهم إلى ما هو خارجهم. «الحمد لله» يردد زميل لى فقد أخته وعائلتها فى فترة القصف ذاتها. «نحن بخير، قدر الله وما شاء فعل، الحمد لله على كل شىء».
***
ثمة نوع من الروحانية والنأى بالنفس عن أى إمكانية للتحكم بما حدث، هى روحانية أعترف أننى لا أمتلكها أمام المصائب وأحسد من يسلم قدره بهذه الطريقة فتستكين روحه ولو قليلا. أسمع عن أشخاص ترفعوا عن كل التفاصيل الحياتية وجعلوا عالمهم فى قلبهم وفتحوا قلبهم على السماء وتحرروا من الشياطين. هناك على قمة الجبل يجلسون فى سلام وطمأنينة لا أعرفها، أنا سجينة التفاصيل الحياتية والمادية، لا أعرف تسليم ما يشغلنى ولا منفذ عندى لغضبى فيفترسنى على مدى أيام بشراسة دون هوادة.
***
أغادر مكان الكارثة وصوت الرجل لا يغادرنى. صرت أردد معه «بدى عيش» فيرتفع الصوت فى ساعات الليل ويوقظنى ثم يهدأ قليلا أثناء النهار ومع وجود أفراد عائلتى من حولى فى المطبخ وفى السيارة، ثم لا يلبث أن يعود الصوت ليجتاح منامى ويدق كمطرقة على الخشب فى رأسى ولا أنام.
***
لم يطلب الرجل سوى حقه وحق من يحب بالحياة. هو لم يطالب حتى بحياة كريمة، يريد فقط أن يستيقظ ليجد أن ما حدث كان كابوسا وليس حقيقة. ككثيرين ممن فقدوا كل حياتهم فى الحرب، يتحرك الرجل فى فضاء من الركام بذهول يردد كلمات كالتعويذة علها تساعده على الثبات. وتماما كالتعويذة تنتقل كلماته إلى فأسمعها فى الليل والنهار وأحتضن ابنتى بابتسامتها ما قبل النوم بينما جملة «بدى عيش» ترتطم بجدار رأسى من الداخل وتكاد تعمى قلبى عن رؤية الطفلة المستكينة قربى فى السرير.
***
«بدى عيش» أساس كل الحقوق، وهو ما يطالب به رجل فقد كل عالمه.
كاتبة سورية